لكل السوريين

بيت المونة من أولى الأولويات التي تحتفي بها نساء سوريا

دائماً كانت المائدة السورية التي تحفل بكل أنواع الطعام والطيبات، مائدة لا تضاهيها موائد الشعوب، ولا يُمكن أن يخطر شيء على بالك من خضار السنة إلا وستجده في كل أوقات السنة التي لا يوجد فيها، لسبب بسيط، أن السوريين يتبعون نظام المونة، ويدّخرون طعاماً للشتاء لتبقى موائدهم عامرة بالأطايب وقد جرت العادة السورية في كل المحافظات دون أي استثناء أن يكون هناك وقت في السنة (في الصيف ) يُقال له وقت (المونة) أي المؤن، فالسوريون ولأن طعامهم يشمل كل أنواع الخضار التي قد لا تتوفر في الشتاء، وجدوا أنه من الواجب أن يحتفظوا أنواعاً من الطعام بمختلف الأشكال والطرق، لتكون ذخيرة يستعينون بها في أيام الشتاء وقلة المواد الغذائية. المونة هي كل أنواع الطعام التي يحفظها السوريون في أوقاتها الموسمية الطبيعية لضمان وجودها في الشتاء، وتشمل كلمة المونة الخضروات والبقوليات والمخللات والمربيات والحبوب والنباتات والسكر والزهور والأعشاب، وكثيراً ما تُغطي المونة حاجة أهل البيت لسنة واكثر، ويتم تخزين كل ما يمكن تخزينه في ذلك المكان الذي يُسمّى “بيت المونة”.

الغرفة اللذيذة بيت المونة هو الاسم الذي يستخدمه السوريون عادة للمستودع الذي يحفظون فيه طعام المؤن، ولبيت المونة شروط لا بدّ من توافرها ليكون صالحة للتخزين، وبما أن غالب البيوت القديمة كان على النمط العربي، فإن بيت المونة كان يُبنى في منطقة أخفض من باقي مناطق المنزل أو يكون في سقيفة البيت، لكنه لا بدّ أن يكون بارداً نسبياً، غير مشمسٍ وجافاً. لكن تطور الحياة وتغيّر أنماط المنازل، أدى إلى تطوّر موضوع بيت المونة، فصغر مساحة البيوت لم يعد يسمح بوجود بيت المونة ضمن تقسيم البيت ما أدى إلى الاستعاضة عنه بالثلاجات في العصر الحالي كلها من المؤن تقوم ربّات البيوت بتحضير كل ما يُسمّى حواضر البيت في وقت المونة، وتشمل حواضر البيت اللبنة، الجبنة، المكدوس، الزيتون، المخلل، المربّى، الزعتر والزيت. ففي وقت الجبنة وإنتاج الألبان، والذي يكون في الربيع وبداية الصيف، تقوم ربّة المنزل بتحضير مونة الجبنة، إذ يتم الحصول على السمن ومشتقات الألبان من المناطق التي تشتهر بمراعيها كحماه والجزيرة، ويتم غلي الجبنة وتخزينها في الماء والملح بعد إضافة حبة البركة إليها، ولا تقلّ كمية التخزين عن عشرة كيلوغرامات كحد أدنى، وكذلك يتم تنشيف اللبن الرائب من الماء قدر الإمكان، وتُصنع منه “اللبنة الطابات” والتي تُخزّن في زيت الزيتون. إضافة إلى السمن العربي والزبدة وزيت الزيتون، وكل هذه المواد ينطبق عليها المقدار الكبير في التخزين، لأنها يجب أن تكفي العائلة لفترة طويلة. إضافة إلى اللبنة والجبنة والسمن، فإن الزيتون يكون أحد أنواع المونة إذ تقوم النساء بـ(تفقيش) الزيتون أو تجريحه وإضافة الحمض والزيت إليه، مع اختلاف طريقة التخزين تبعاً لنوع الزيتون. و تأتي المربّيات لتحتل مرتبة مهمة جداً في المونة وبين أنواع الحواضر، فربّة المنزل لا توفّر نوعاً من الفاكهة، وكل الأنواع صالحة لتكون مربّى، ومن هذه المربيات ما يكون “مرت” أو “شقف” والمرت هو المربى المطحون الذي يشبه السائل وغالباُ ما يكون المشمش هو النوع الممروت، فيما تكون بقية الفواكه عبارة عن شقف، ومن هذه الأنواع: ( المشمش، التوت، الورد، الباذنجان، النارنج، الفريز، برتقال، كرز، دراق، تفاح، سفرجل …الخ). في حين يأتي المكدوس ليتوّج مونة حواضر البيت، والمكدوس هو عبارة عن باذنجان يتم سلقه وتمليحه، وحشوه بالجوز والفليفلة الحمراء إضافة إلى الثوم لينتهي به الأمر في “قطرميز” من الزيت، ويُعدّ المكدوس أكلة شعبية ملكية بامتياز وفيه الكثير من الفوائد وهو أحد أهم أنواع الحواضر المغذّية. ويُضاف إلى حواضر البيت ما يُسمّى “السوركة- الشنكليش” وهو عبارة عن لبنة جافة تماماً (أكثر من اللبنة العادية) يتم خلطها بالملح والفليفلة الحمراء المسحوقة والنعنع اليابس والشمرة، ثم توضع لتجف تماماً و تُقلّب، ثم يتم تغطيتها بالزعتر اليابس، وهذا النوع خاص عادة بمدن الساحل السوري وحماه دون غيرهم من المحافظات.

الجزء الأكبر من المونة تُعدُّ عملية التيبيس أهم العمليات المستخدمة في عملية تخزين الطعام، وتشمل هذه العملية طيفاً واسعاً من الخضار والفواكه على حدٍّ سواء، واليبيس هو نشر الخضروات بعضها ليجف وبعضها ليذبل ويتم التخزين بعدها. ويتم تخزين البقول كالفول والحمص والعدس والفاصولياء والبازلاء بالتيبيس ومن ثم في أماكن جافة ومظلمة، كذلك يتم حفر الكوسا والباذنجان واليقطين “الخفيف” وتيبيسهم على الخيط، إضافة إلى تيبيس البامية والملوخية والتي يعتمد البعض على تذبيلها فقط دون أن تيبس، ففي حلب يتم اللجوء إلى التيبيس تبعاً لطريقة الطبخ لأنها تُستعمل مطحونة، وكذلك يتم تيبيس النعنع وطحنه ويُستعمل كنوع من التوابل. كذلك التين يتم وضعه على الخيط وتيبيسه، ويُعدّ الزبيب من الفواكه التي يتم تجفيفها كذلك التمر والجوز، إضافة إلى البصل والثوم. هذا ويندرج دبس البندورة والفليفلة الحمراء في خانة اليبيس، إذ يتم طحن البندورة والفليفلة الحمراء ونشرها في الشمس لتصبح ذات قوام متماسك نوعاً ما وبالتالي تتحول إلى دبس يُستخدم في الطبخ، في حين قد تًنشر الفليفلة الحمراء في الشمس قبل أن تُطحن ومن ثم يتم طحنا لتصبح مسحوقاً يُستخدم كنوعٍ من التوابل.

جزء لا يتجزأ من المونة تحتل المخللات مكانة مميزة إلى جانب الكثير من المقبلات الأخرى السورية، والتي لا يمكن أن تخلو سفرة يوم الجمعة منها أو في الايام العادية حتى إلى جانب العديد من الأكلات الشعبية. وتتعدد أنواع المخللات في المنزل السوري، إذ يشتمل المخلل على كثير من أنواع الخضروات، هي الخيار، القثّاء، الجزر، الباذنجان، البطاطا، الزهرة، الملفوف، اللفت الأبيض، الشوندر، الزيتون، الفليفلة الخضراء، اللوز الأخضر(العوجا) وأخيراً الجانرك (الخوخ الأخضر). و على الرغم من اختلاف وتعدد أنواع المخللات، إلا أنها تشترك في طريقة التحضير وهي التشريش مع الخل، والتي تعتمد على حفظها في مملح (ماء وملح) ويضاف إلى المملح كمية من الخل والثوم، وتُترك مخزنة في السائل حتى يتغير لونها وطعمها، فيصبح حامضاً، وعملية التخليل عملية كيميائية بحتة تعتمد على امتصاص الخضروات للملح وحدوث تغييرات في التركيب الكيميائي داخل الخضار.

وللسوائل دور في المونة تتعدد السوائل التي تندرج في إطار المؤن، فمنها الحامض ومنها الحلو، لكنها جميعاً يدوية الصنع. -دبس الرمان: ويُستعمل في السلطات والطبخ والفتوش، ويتم صنعه من الرمان المغلي والمنشور في الشمس ليصبح سائلاً سميك القوام. -التوت الشامي: ويُستعمل التوت الشامي لصنع عصير التوت، ويستخلص السائل من غلي التوت مع كمية كبيرة من السكر، ويُصبح سائلا مركزاً يتم عصره وتصفيته من بذور التوت، ويُستعمل عن طريق حل كمية من السائل المركز في كمية من الماء، ويكون ذا مذاق خفيف ولذيذ جداً. -الليمون: في الشتاء وفي وقت الحمضيات بالتحديد، جرت العادة أن يتم عصر كمية كبيرة من الليمون، وتعبئتها في قناني، ويتم استعمالها في العصير وفي تحميض الطعام أثناء الطبخ أيضاً. -الحصرم: وهو عبارة عن سائل يُستخدم كنوع من الأحماض في حال عدم توفر الحمض العادي، والحصرم هو مُستخلص العنب قبل أن ينضج، إذ يتم عصره وإضافة الملح إليه ثم نشره في الشمس ليجف قليلاً ويتعقم، ثم يتم تخزينه في قناني أيضاً. -الخل: وله نوعان: التفاح والعنب وكلاهما يعتمدان على مدة حدوث التفاعل الكيميائي، إذ يوضع العنب أو التفاح بعد غسله في وعاء زجاجي حصراً لمدة أربعين يوماً كحد أقصى في مكان دافئ مظلم تماماً، ويغطّى بقطعة من الشاش لمنع دخول الحشرات وذبابة الخل إليه، ويتم تحريكه كل فترة وتزاد رائحة الخل ظهوراً بازدياد المدة، ثمّ وبعد أربعين يوماً كحد أقصى يُصفّى ويوضع في زجاجات محكمة الإغلاق حتى يترسب ما فيه من بقايا الثمار، بعدها يؤخذ ويُستعمل. -عصير الكرز: وغالباً في حلب يتم تموينه لاستعماله في طبخ اللحمة بالكرز. -عصير الرمان: ويُصنع أيضاً في حلب لاستعماله في طبخ الكبة السفرجلية وهنالك أنواع أخرى من المونة وللحصول على البرغل والفريكة، يتم شوي القمح للحصول على الفريكة، في حين يتم صنع البرغل بترطيب القمح أولاً، ثم نشره في الهواء لتصبح رطوبته 10%، وبعدها يتم تقشيره وجرشه ليصبح برغل. ويتم أيضاً تجفيف أنواع من الزهور والأعشاب لاستعمالها كمغلي يتم تناوله في حالات المرض والزكام، ومن هذه الأعشاب؛ المليسة، القرنفل، الورد، البابونج، اليانسون، الميرمية…الخ وأخيراً، يتم تخزين ورق العنب بطريقة التشريش، إذ يتم حفظه في محلول ملحي ليحافظ على لونه ويبقى طرياً جاهزاً للاستخدام. وبهذا نكون قد أنهينا مونة البيت كلها، ويُلاحظ أن السوري لا يحتاج شيئاً من خارج منزله ما إن يُنهي موسم المونة، فهو يقوم يصنع كل شيء يدوياً ومنزلياً، مما يجعله مكتفياً ذاتياً، ويزيد في بركة البيت والطعام. لكل شيء طعم خاص في سوريا، ومن موسم المونة يمكننا أن نعلم لماذا يشتهر الطعام السوري بنكهته اللذيذة، فتحضيره منزلياً يضمن أن يكون المكون الأساسي فيه هو الحب، لأن كل أمٍ تبذل جهدها وتحرص على أن يكون طعام عائلتها مفيداً صحياً آمناً خالياً من أي مواد ضارة، ولذلك فهي تصنعه بيديها، وتُشبعه حباَ.