سوران محمد
المقدمة:
بعدما نشرت الشاعرة السورية د.ناديا حماد نصها الشعري (معابر ضيقة) على موقع (عالم الثقافة) في سنة ٢٠٢١، انجذبت اليه و أردت سبر غور شيئا من ابعاد الدلالي لنصها، فنشرت مقالي النقدي بعنوان: عتبات النص ومستوى الصراعات داخل (معابرُ ضيِّقة) في موقع (المثقف) في ١/١٢/ ٢٠٢١، حيث تنبأت الشاعرة من خلال رموز نصها بزوال الظلام و طلوع فجر الحرية في سوريا بشكل رمزي مبطن، مضحيا بنفسها و قلمها جنبا الى الجنب مع الثائرين الاحرار للعبور الى بر الامان و فتح صفحة جديدة من الحياة الكريمة تكون خالية من الاضطهاد والحرمان، وبعد أربع سنوات بالتحديد من كتابة نصها، رأينا على الارض الواقع بأن توقع الشاعرة صحيحة وان فراسة الشعراء شيء يجب أن تؤخذ في الحسبان، نثمن ولا ننكر الجميل لأصحاب الاقلام الذين لا يقل دورهم عن دور المناضل في ساحات الوغی لنيل الحرية و استرداد كرامة الانسان المنهوبة في البلاد.
عتبات النص ومستوى الصراعات داخل (معابرُ ضيِّقة):
هنا في هذه القصيدة (معابرُ ضيِّقة) لـ د. ناديا حمّاد توقفت قليلا وتأملت في عتباتها فسرعان ما جذبتني وأسرت روحي لأول وهلة ومع أول قراءة، ثم بدأت بمراجعتها مرات تلو الاخرى، وسبب الاختيار ليس لأن النص سهل ممتنع، ولا بدافع سلاستە وصرحات الآهات المستعلية داخل أزقته المخيفة والتي يسمعها القاص والدان من بعيد، بل لأن الشاعرة استطاعت ومن خلال فطنتها وقوة بلاغتها وتنظيم المشاهد فيها أن تجعل الحياة الخاصة فيها عاما وتخاطب بنصها كل قارئ أينما كانوا على وجه الارض باختلاف أجناسهم وألوانهم وعرقهم وميولهم، وهذه من مواصفات النصوص العالمية، فاذا حذفنا الاسم على النص وعاملناه كقطعة أدبية مستقلة ذات شكل ومضمون معين، لنرى انه لا يقل شئنا علی سبيل المثال من قصائد (لويز غلوك) الحائزة علی جائزة نوبل للآداب لسنة ٢٠٢٠، خاصة نحن کبشر بفطرتنا نشارك الشاعرة هذه المشاعر الانسانية والحالات النفسية الأليمة عندما نتلمس هول الموقف وربما قد واجهتنا ظروفا قاسية مشابهة أثناء الكوارث والحروب وتعلمنا منها ما يقوي بنياننا ويصبرنا على الشدائد أطول مدة ممكنة وكل منا عنده شيء من هذا الحصاد الاليم المنقوش في تسجيل ذكرياته، كل حسب بيئته وتجربته الحياتية الخاصة. ليس هذا فحسب؛ بل يتسنى لنا من خلال القراءات ان نحيط علما بما لا يسعه القاريء البسيط الاحاطة به، کمعرفة ما يجري من فوضى في عالمنا المعاصر ومنها بيئة الشاعرة، المستجدات علی الساحة السياسية والواقع الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية، نفسية الناس أثناء الازمات، الحالة النفسية للشاعرة، مستوی الوعي وطريقة تعامل مثقفة واعية کشاعرتنا ناديا مع معطيات الظروف الصعبة، وبالاخص كلنا نحيط علما بما يدور من مآسي ومشاكل وأزمات متعاقبة في سوريا وعلى أرض الشام منذ أكثر من عقد من الزمن. لكن الأهم من ذلك هو ان الشاعرة تلوذ بالكلمات وتستمد قوتها المعنوية منها وتکون رفيقة دربها بل تحاولُ أنْ تعيدَ إنتاجَ نفسها بالكتابة، وهذا هو الموءشر الايجابي لأستيعاب واقعها الاليم وتقوم بدورها بمسوءلية واخلاص وتكون قدوة لغيرها، لكن في النتيجة مثلما قال رولان بارت ان الأدب هو ألا أستطيع أن أقرأَ دون ألمٍ ودون اختناقٍ وما هو الا سؤال ينقصه الجواب
أول عتبة تواجهنا هو العنوان، فمن خلال العنوان نصل الى الجوهر المخفي في العمق المستور وخلف قضبان الكلمات الوضائة، فالعنوان فيه اشارة واضحة الی تعدد السبل والمعابر للوصول الی الهدف المنشود، لكن السبيل ليس واسعا ومنيرا، بل مليء بالمخاطر والمثابرة، ثم بعد قراءة المتن نصل الى قناعة بأن ثيمة هذا النص بمثابة خروج عن المألوف بحد ذاتها، فهي ليست البكاء علی الاطلال ولاتعالج مواضيع البعد عن الحبيب والفراق الموءلم فحسب، بل تطرق أبواب الفكر والفلسفة للبحث عن المنفذ والمخرج للأجيال نحو الضياء من خلال السرد الشعري لمعاناة الذات وتداول مواضيع مصيرية في غاية الاهمية، فلو قمنا بتفكيك بنية النص ووزعنا العناصر المكونة منها الی أصناف وجداول فرعية عندئذ سنستنتج قراءات جديدة ومعطيات لم تكن في حسباننا من خلال العبور السريع.
بلا شك ان البنية الأساسية هنا واقفة علی أرضية صلبة للرحيل ولكن ليس سفر واحد أو رحلة ترفيهية، بل ان الشاعرة مبدئيا لا تنوي الهجرة واذا اضطرت فعليها البحث عن أقدامها وهي تری نفسها موجودة في الآخر (المخاطب) كي تشعر بالالفة والسکينة تناغما مع جميع عناصر الكون المزدوجة والمتناغمة:
في كلِّ مرّةٍ تتركُني،
أفتِشُ عن قدمي
التي ستَحمِلُني إليك
يقول وليام جلاسر: تتحكم بنا خمسة احتياجات جينية؛ النجاة، والحب، والانتماء، والقدرة، والحرية.
فهنا في جوهر هذا النص تنبع كل هذه الاحتياجات والميول الفطرية في ثياب المجاز والاستعارات، نستنبط هنا من ان المتکلمة بالرغم من ضعف بنيتها الفيسولوجية كأنثى والتي لا تقوي لتحمل مشقة الرحيل الطويل والمتعدد ومتاعب الطريق ومخاطر الهروب، يضاف اليها عامل العمر وللأسف شديد مع اضافة خلاء الأمعاء كذلك، لكن بالمقابل تواجه وتقاوم الشاعرة العالم المادي بالحلول المعنوية والروحية ومن بين تلك الحلول تعد أعادة إنتاجَ النفس بالكتابة شكلا من اشکال الصمود، حيث نستمد منه القوة والثبات والنصر:’metaphysical’
أحاولُ أنْ أعيدَ إنتاجَ نفسي بالكتابة
وأمارسَ الصّمودَ
بأمعاءَ خاوية
هكذا نلملم حطام تلك المآسي و نعد العتبات لأجتيازها من الضعف الفسلجي الی هول المشهد التي تواجه المتحدثة ونرسمها في شكل هذه الصورة التوضيحية كي يتسنی لنا ان نستوعب الوقائع من خلال سرد الشاعرة للأحداث ومجريات الأمور، دون الخوض في اشارات ورموز كـ(الريح الجنوبية):منبع الثورة و(غرفة الحراسة):القضر الرئاسي… لأسباب غير أدبية!
بعدما اتضح لنا شيء من هذه العتبات؛ ثم نأتي الى العنصر الثاني الأهم في هذا النص ونبدء بسوءالنا عن ماهية غريزة الشهوة وما هو الوجه المجازي لها في هذا النص؟ في العادة ان الشاعر المتمكن لا يستعمل المصطلحات في اشکال استخداماتها اليومية والمقصودة بطريقة مباشرة، بل تصنع منها معان أخرى ستوصلنا الی عالم مجازي غير هذا العالم المحطم والمليء بالنکبات والانكسارات، لأن الخيال كما هو معروف يعتبرجزءا حيويا من نسيج النص الشعري الحي، وبالتالي يقوم انتاج النص بدور المعالج النفسي للتخلش من الانكسارات و التآم الندوب الداخلية للمتلقي كما للشاعرة.
وبالرغم من ان الشهوات متعددة، لكننا اذا تعاملنا معها من منظور شعري غرامي، نأتي بأستنتاج جديد من خلال نظرة علي طنطاوي اليها حينما يقول: ان فطرة الشهوة مزروعة في جوفنا لغرض ادامة سلالة البشر على وجه الخليقة، اذا من هذا المنطلق نتعامل مع مصطلح الشهوة هنا کرمز للرغبة في الأستمرارية والدوام والحياة على الارض، وتعتبر هذه حالة ايجابية من بين تلك السلبيات المحاطة بالشاعرة وبيئتها في هذا المقطع، کالـ: آهات، خوف، ارتباکات الايادي…الخ
فيكلِّ مرة ترسمُ الريحُ الجنوبيةُ
خرائطَ الشهوات
فوق أجسادنا
غير عابئةٍ بآهاتِنا
ولا بالخوفِ المتدلي
من ياقاتِنا
ولا بارتباكاتِ أيدينا
عندما نتكلمُ
عن المستقبل
وهكذا في المقطع الأخير نأتي الی الأستنتاج الأهم ونحقق الهدف المنشود مع الشاعرة من خلال الوصول اليه بعد اجتياز كل العتبات، أي معالجة تفاصيل خاتمة الصراعات في هذا الشعر الدرامي. مثلما نعرف ان عامل الوقت نقطة مهمة وحيوية في نضوج الثمار، فلا قطاف للمستعجلين، ولذا من المستحسن ان نعطي لعامل الوقت مکانه الأنسب في تحاليلنا وخرائطنا للخروج من کل تلك العتمات، فدروس الماضي تجعلنا ان نتخلق بالحكمة والصبر، ثم اذا عرفنا في البداية بأن سبل الخروج الی الضوء الموجود في الساحة (ضيقة ومليئة بالمخاطر) فعلينا الا نقتحم هذه النقاط قبل ان نستعد لها ونسلح أنفسنا بعتاد المعرفة والجدية، ثم اذا أتى حين مناسب من الدهر لنيل المرام وضمان مستقبل أنسب لنا وللأجيال القادمة لا يكون فيه مكان للتجويع والاهانة والاختطاف القسري سنستثمر الفرصة لحدوث هدا التغيير الحتمي.
عندما نتكلمُ
عن المستقبل
وعبورِنا للوقت
من معابرَ ضيّقة..
كلُّ الطرقاتِ إلى السّاحة
غارقةٌ بالعتمة،
وحدَها غرفةُ الحراسة
ما زالت تنعمُ بالإضاءة
في ختام هذه القراءة اتمنى ان تتمتع الشاعرة بالسعادة والهناء أينما كانت ونحن وشاعرتنا الموهوبة المخضرمة ناديا حماد نضم أصواتنا الی صوت نزار قباني ونقول بکل شوق واشتياق؛ مناديا الحرية المسلوبة سعيا في الطيران في سماء أوسع ودون القيود والانحطام والاذلال:
أيا شرق المشانق والسكاكين..
.. والأمراء
من كل السلاطين..
.. أريد أحب مثل طيور تشرين