عبد الكريم البليخ
الرّقة، تلك المدينة التي اعتادت أن تُحكى لا أن تُروى، تتكئ اليوم على جدار الذكرى، كعجوز تُحدّق في وجه الزمن ولا تجد فيه غير التجاعيد. مدينتنا التي كانت ترقد كحكاية بين ضلوع الفرات، وتتمايل كقارب ورقي في مياهه الزرقاء، ها هي اليوم شبه خالية من الأشجار، إلا ما نبت بإرادة الدولة في مشاريع تحريج خجولة، أو ما نبت على استحياء في جزر النهر. ولكن حتى هذا القليل لم يسلم من عبث المفارقة.
فلقد بدأت أشجار الزيتون، تلك التي ترتبط بسلام الأزل ورمزية الأرض، تغزو الأرض كما يغزو الحنين ليل الأرامل. غابات كثيفة من الزيتون تُطل من أفق الرقة، حتى يخال لك أنها قادمة من سفر طويل بحثاً عن وطن جديد. ليس ثمة تنوّع بيئي يُبهج البصر، لا صنوبر ولا تين ولا زهر لوز يعكس بيوضه على خدّ الربيع، بل فقط الزيتون… الزيتون إلى حد التكرار المؤلم، كأنما المدينة تسعى لتدوين اسمها لا في كتب التاريخ، بل في جداول الإنتاج الزراعي: من المرتبة الرابعة إلى الأولى في إنتاج الزيتون، كما لو أن الأرقام يمكن أن تمنح المعنى لما لم يعد له معنى.
سِرْ في طريقي تل أبيض الشرقي والغربي، سترى المزارع الجديدة تحاصر الأفق بأسلاك شائكة، جدران قصيرة من بلوك إسمنتي رمادي، كأنها خجلى من أن تُدعى بيوتاً. ترى غرفة مشادة وسط الحقل، تتمايل كأنها مشهد هزلي من مسلسل كرتوني، أو كتقليد هزيل لعمارة “حَني” التي كانت يوماً زينة الرقة، لا من حيث الجمال بل من فرط الغرابة التي تحتضنها.
لم يكن الاستيلاء على الأرض في الرقة فعلاً من أفعال الكفاح من أجل البقاء، بل غالباً ما كان فعلاً من أفعال الصلف. لطالما كانت هناك أراضٍ من أملاك الدولة تُخطّط لتكون مقالع، مكبّات للنفايات، أو مشاريع عامة، وما إن تَشي الدولة بنيّتها حتى يُسارع الأهالي إلى وضع أيديهم عليها، كما لو أن الأرض تناديهم وحدهم، وكأن المصلحة العامة كلمة بلا معنى.
هكذا وُلد السكن العشوائي، ليس بوصفه حلاً لفقر أو ضيق، بل كجزء من اقتصاد غير مرئي، يلتهم الأرض بلا هوادة، كصيد جائر لا يميز بين ذكر وأنثى، بين صغير وكبير، بين ضروري وهامشي. التعديات أصبحت طقساً يومياً، تنبت كما تنبت الطحالب في زوايا مهملة. هناك من يقول إنها محاولة لإحياء الأرض الميتة، مستشهداً بالحديث النبوي الشريف، ولكن متى كان الإحياء يتم بالسطو والتسييج؟ متى كان الفتح يقوم على اغتصاب الملكيات العامة وتحويلها إلى حصص خاصة؟
ووسط هذا الجنون المعماري، هناك مَن يُطارد، وليس من البشر، بل الزيتون نفسه. فوزارة الزراعة، ولأسبابها، تمنع ترخيص زراعة الأشجار المثمرة في هذه الأراضي، لا لكرهها للزيتون، ولكن خوفاً من طغيان الأشجار على المحاصيل الاستراتيجية، كالقمح والقطن. إنها مفارقة عجيبة: الأرض تُغتصب لتُزرع، والزراعة نفسها تُجرَّم لأسباب تخطيطية. الزيتون، شجرة السلام، صار الآن محارباً خفياً، متمرداً على الخريطة الزراعية.
لعل أكثر ما يُوجع في الرقة، هو هذا التحول المعماري الذي نبت على هامش الحياة. حين تمشي في ضواحي المدينة، تجد أشكالاً غريبة من المساكن. بعض البيوت ليست سوى جدران مرفوعة كيفما اتفق، سقفها من صفيح، وأبوابها ألواح مخلعة. في مواقع كثيرة، ستجد أحجاراً قديمة، فخارات منبوشة من مواقع أثرية مجهولة، استُخدمت كمواد بناء، كأن تاريخ الرقة يُسلب حجراً حجراً ليُبنى به عشوائيها الجديد.
لم يكن هذا فقط تشويهاً بصرياً، بل كان اغتيالاً لصمت الحجارة. فالمدينة التي كانت ذات يوم محطة على درب القوافل، وعاصمة على نهر، ومساحة للعلم والفقه، تخلّت عن بهائها القديم لتتسع لتشوّه جديد. الرقة التي عرفت ابن تيمية وابن عساكر، وجلس في مساجدها الأئمة، باتت اليوم سجينة قبحها المعماري، وكأن المكان فقد روحه.
بل إن المعمار ذاته لم يعد وسيلة للسكن بل أداة للمكانة. غرفة من البلوك في مزرعة زيتون، مغلقة بجدار فخاري، تكفي لتقول: “هذه أرضي”. لم تعد الأرض تُعاش بل تُملك. وكلما زادت الأسلاك، زادت الشرعية. في هذا المناخ، تصير الحياة نفسها فعلاً دفاعياً، ويتحول الإنسان إلى حارس ممتلكات لا ساكن أرض.
مَن يرَ الرقة اليوم لا يرى سوى ما تبقى منها، ولكنّ روحها القديمة لم تمت. المدينة، رغم قسوة حاضرها، ما زالت تحمل في عمقها تاريخاً من التسامح والجمال. نهر الفرات، على ضفافه كانت الحياة تَسري ببطء، كقصيدة عاشق. وفي جُزره الباقية، ما زالت بعض الأشجار تنمو بحرية، ترفض أن تُسيّج، تُعلن بقاء الجمال ولو في غفلة من الخرائط.
لكن التحدي ليس في مقاومة الخراب فقط، بل في إعادة بناء المعنى. كيف يمكن للمدينة أن تستردّ صوتها؟ كيف تعود إلى كونها مكاناً للناس لا للعقارات؟ كيف يصبح الزيتون شجرة حياة لا رمزاً للاجتياح؟ كيف يُعاد الاعتبار للأرض لا كمصدر للثروة فقط، بل كذاكرة جمعية؟
الرقة تحتاج اليوم إلى وقفة تأمل قبل أن تندفع أكثر في طريق اللاعودة. تحتاج إلى مشروع وطني يُعيد تعريف العلاقة بين الأرض وأبنائها. لا يكفي منع الزيتون، ولا يكفي زرعه. لا يكفي أن نضع الأسلاك، ولا أن ننزعها. يجب أن نعيد تشكيل الخيال نفسه، لأن المدن تُبنى أولاً في الخيال، في الحلم، قبل أن تُبنى على الأرض.
الرقة ليست فقط مكاناً، بل هي سؤال معلق بين الماضي والحاضر: ماذا يعني أن نكون أبناء مدينةٍ تُهجَّر أشجارها وتُهجَّر معها معانيها؟ من دون هذا الجواب، ستظل الحقول حكايات ناقصة، والبيوت بلا أرواح، والزيتون بلا سلام.