تقرير/ اـ ن
يواجه القطاع الصناعي في الساحل السوري أزمة متجذرة ومتفاقمة، تهدد استمرارية العمل فيه، وتضع مستقبل الإنتاج الوطني في مهب الريح. ويشير العديد من الصناعيين والخبراء المحليين إلى أن تنشيط هذا القطاع الحيوي يصطدم بأربعة تحديات رئيسية تشمل ضعف الوظائف الحيوية للجهاز الرسمي، وضبابية الخطاب الاقتصادي، ورداءة البيئة الاستثمارية، وتضارب الأولويات لدى الجهات الحكومية.
في السنوات الأخيرة، سعت الجهات المعنية إلى إعادة هيكلة المؤسسات الصناعية العامة والخاصة، ومحاولة دعم القطاع الخاص، لكن هذه الجهود ظلت محدودة، في ظل غياب الدعم الجاد والمباشر. ويؤكد الصناعيون في الساحل أن بعض مؤسسات القطاع مهددة بالتوقف الكامل بسبب الارتفاع الكبير في أسعار الكهرباء، مشيرين إلى أن الحكومة لا تقدم الدعم الكافي للصناعة، ما يجعل استمرار العمل في ظل هذه الظروف شبه مستحيل. ويؤكد الواقع العملي هذا التدهور، إذ تراجعت إنتاجية القطاع الصناعي بشكل كبير، حتى بات الاقتصاد السوري يعتمد بشكل رئيسي على المنتجات المستوردة والقطاع الزراعي، فيما انحسرت الصناعة الوطنية، رغم فقرها وعجزها، في إنتاج سلع محدودة مثل المواد الغذائية والمنظفات والملابس.
القطاع الصناعي في الساحل يعاني منذ عدة سنوات من أزمة مزمنة. الإنتاج تراجع بشكل كبير، واقتربت إنتاجية معظم المصانع من الصفر، إذا ما تم احتسابها وفق الأسعار الحقيقية وأخذ نسب التضخم بعين الاعتبار. الصناعيون الذين بقوا في الساحة يواجهون تحديات متعددة، تبدأ بنقص الطاقة والوقود، وتصل إلى شُح اليد العاملة، بعد أن هاجر معظم العمال المهرة إلى خارج البلاد، مروراً بأزمة التصريف في سوق ضعيف القدرة الشرائية، وهي مشكلة مستعصية تهدد أي مشروع إنتاجي.
كذلك تراجعت التشابكات البَيْنِيّة داخل القطاع الصناعي، ما أفقد المصانع “اقتصاديات الحجم” التي تعد أساساً في تقليل الكلفة وتحقيق التنافسية. البيئة الاقتصادية في الساحل توصف بأنها “ضعيفة”، سواء من حيث البنية التحتية أو القدرة الشرائية أو توفر الكفاءات العاملة. ويرى الصناعيون أن هذه البيئة إذا لم تُدرس بموضوعية وحياد، فلن يبدأ فيها أي مشروع صناعي جديد، أما المشاريع القائمة حالياً، فإما أنها قديمة تستمر بحدها الأدنى، أو حديثة ما زال أصحابها يأملون بتحسن البيئة العامة رغم المعوقات الكثيرة.
من أبرز المشكلات التي وصفها الصناعيون بأنها “ملحة ومباشرة”، مسألة امتلاء الأسواق المحلية، خصوصاً في اللاذقية، بالبضائع المستوردة. وتشمل هذه البضائع مختلف المواد الغذائية والاستهلاكية والكهربائية والصحية، ومواد البناء، مثل السيراميك، الذي يدخل إلى البلاد عبر المعابر غير الشرعية، ما يُشكل تهديداً حقيقياً للمنتج الوطني. وتشير الشهادات الميدانية إلى أن الصناعة الوطنية في اللاذقية تواجه تحديات متراكمة لا تهدد فقط استمرارية الإنتاج، بل تحد من قدرة الصناعيين على مواكبة المتغيرات الاقتصادية السريعة داخلياً وخارجياً.
الصناعيون يطالبون بتشديد الرقابة على المنافذ الحدودية، ومكافحة التهريب الذي لا يضرب فقط الصناعة، بل يُلحق أضراراً كبيرة بالخزينة العامة للدولة، ويؤدي إلى تفكك السوق الوطنية. واعتبروا أن دخول بضائع غير مطابقة للمواصفات خطر لا يقل عن التهريب، حيث يؤدي إلى منافسة غير عادلة بين المنتج المحلي الملتزم بالمعايير، والبضائع الرخيصة المستوردة التي لا تخضع لأي رقابة حقيقية. لذلك شدد الصناعيون على ضرورة تفعيل الرقابة النوعية، خاصة في القطاعات الحيوية كالصناعات الطبية والبيطرية والتجميلية.
ومن التحديات التي باتت تهدد بشكل مباشر استمرار عجلة الإنتاج، أزمة السيولة المحجوزة في المصارف، حيث تُعيق هذه الأزمة قدرة الصناعيين على شراء المواد الأولية، أو تأمين رواتب العمال، أو الوفاء بالتزاماتهم تجاه الموردين. ويطالب الصناعيون بإعادة النظر في الرسوم الجمركية المفروضة على المواد الأولية، معتبرين أن تسوية الرسوم بين المادة الخام والمنتج النهائي “أمر غير منطقي”، ويضر بالمنتج المحلي الذي يفترض أن يُعامل بطريقة تفضيلية.
ولا يمكن الحديث عن تعافٍ صناعي دون تأمين حوامل الطاقة، وهو ما دفع الصناعيين إلى المطالبة بالسماح للقطاع الخاص باستيراد المحروقات لتجاوز أزمة الوقود، إضافة إلى المطالبة بحلول لمشكلة الأموال المحتجزة لدى بعض الشركات الخاصة. ويشدد الصناعيون على أن ما يطرحونه ليس مطالب رفاهية، بل هو “نداء استغاثة” لإنقاذ ما تبقى من الإنتاج الوطني في الساحل السوري.
ومن التحديات البنيوية أيضاً، نقص المواد الخام والتقنيات الحديثة اللازمة للإنتاج، بالإضافة إلى غياب الاستماع لصوت الصناعيين ومقترحاتهم، وعدم الأخذ بحلولهم لتحسين بيئة العمل وتحفيز عجلة الإنتاج. ويرى الصناعيون أن الدمار الذي لحق بالبنية التحتية، والعقوبات الاقتصادية المفروضة، والانكماش العام في الاقتصاد السوري، كلها أسباب رئيسية في هذا التدهور.
ويرى البعض أن هناك نافذة أمل لإعادة إحياء هذا القطاع، لا سيما أن مناطق الساحل السوري كانت تملك في السابق قاعدة صناعية قوية، خصوصًا في الصناعات التحويلية والنسيجية والغذائية والإنشائية والنفطية. ورغم الضعف الكبير الذي أصاب القطاع، لا تزال هناك إمكانات قائمة يمكن البناء عليها لتشكيل ركيزة أساسية للنهوض بالصناعة مجددًا.
وتعد التقلبات الحادة في سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار أحد أبرز التحديات المؤثرة على القطاع الصناعي. فالتذبذب الكبير في الصرف يعقّد عمليات التخطيط المالي، ويزيد من صعوبة اتخاذ قرارات إنتاجية مستقرة، ما يخلق حالة من عدم اليقين. وتؤثر هذه التقلبات على بنية الأجور والرواتب، إذ يصعب على أصحاب المصانع تحديد مستوى دخل واضح وثابت للعاملين، ما أدى إلى اضطراب في حساباتهم، ودفع العديد منهم إلى اتخاذ قرارات صعبة بفصل بعض العمال بشكل مؤقت أو دائم، بانتظار استقرار السوق.
كما تعرضت الموانئ، لا سيما ميناء اللاذقية، لأضرار مادية جسيمة نتيجة الهجمات الإسرائيلية المتكررة، والتي أدت إلى حرائق وتعطيل بعض مرافق الميناء الحيوية. ويؤكد الصناعيون أن عدم جاهزية البنية التحتية للموانئ والطرقات يعيق عمليات الاستيراد والتصدير، ويؤخر تطور القطاع الصناعي، مشيرين إلى أن ميناء اللاذقية بحاجة ماسة لإعادة تأهيل ليتماشى مع متطلبات العصر والتطورات العالمية.
ويُجمع الصناعيون في الساحل السوري على أن الوقت قد حان لتدخل حكومي فوري وجذري، يبدأ بإجراءات عملية وسريعة لحماية المنتج الوطني، ودعم الصناعة المحلية، وضبط السوق، وتوفير بيئة مناسبة للنمو، حفاظاً على ما تبقى من قطاع كان يوماً يشكل أحد أعمدة الاقتصاد السوري.