دمشق/ مرجانة إسماعيل
في ظهيرة يوم حار، يقف أحمد (32 عاماً) أمام نبع الفيجة حاملاً عبوات بلاستيكية فارغة، يملؤها واحدة تلو الأخرى بالماء البارد الذي يتدفق من الصخور. “هذه العادة ورثتها عن جدي”، يقول أحمد وهو يربط العبوات بحبل ليرفعها إلى سيارته. “كان يأتي هنا كل أسبوع ليملأ جرار الفخار، أما اليوم فأحضر البلاستيك”. مشهد أحمد ليس استثناءً، فالكثير من أبناء دمشق ما زالوا يحتفظون بهذه العادة رغم تغير الزمن.
وتروي سمر (45 عاماً)، وهي معلمة من حي الميدان، كيف كانت تشرب في طفولتها مباشرة من “السبيل” الموجود قرب بيتهم. “كان الماء بارداً ونقياً، لا يحتاج إلى فلترة أو تعقيم”. اليوم، تغير الحال. تقول سمر وهي تشير إلى خزان المياه على سطح منزلها: “أضطر لشراء الماء أحياناً لأن الذي يصل عبر الأنابيب أصبح مالحاً وغريب الطعم”.
تاريخياً، لم تكن مشكلة المياه تعني شيئاً لأهالي دمشق. فمنذ العهد الروماني، حيث بنيت الأنفاق لنقل مياه الفيجة، وحتى مشروع لطفي الحفار في عشرينيات القرن الماضي الذي جلب المياه إلى كل بيت، كانت المدينة تعتبر من المحظوظات في تأمين مياه الشرب. لكن الأزمة بدأت تلوح في الأفق منذ سنوات.
علي (50 عاماً)، عامل في مؤسسة المياه، يتذكر الأيام التي كان فيها النبع يفيض بالمياه. “كنا نعتبر الفيجة كنزاً لا ينضب”، يقول وهو يهز رأسه بحسرة. “اليوم نخشى أن يصبح النبع ذكرى من الماضي”. انخفاض منسوب المياه هذا العام وصل إلى مستويات قياسية، مما دفع المؤسسة إلى تطبيق جدول تقنين صارم.
وفي حي ركن الدين، تعاني ليلى (38 عاماً) من انقطاع الماء المتكرر. “نحن نعيش في الطابق السادس، والماء لا يصل إلينا إلا لساعات قليلة كل ثلاثة أيام”، تشكو ليلى وهي تظهر فواتير شراء المياه من الصهاريج التي تثقل كاهل أسرتها. “دفعت 50 ألف ليرة الشهر الماضي فقط مقابل الماء، وهذا مبلغ كبير بالنسبة لنا”.
فالأزمة لم تؤثر فقط على الأسر، بل أيضاً على الحرف التقليدية المرتبطة بالماء. أبو خالد (63 عاماً)، صانع “الجرات” الفخارية في سوق البزورية، يشهد تراجعاً كبيراً في طلب منتجاته. “الناس كانت تشتري الجرات لحفظ ماء الفيجة، أما اليوم فلم يعد هناك ماء ليحفظوه”، يقول الحرفي العجوز بأسى.
في المقابل، بدأت تظهر حلول جديدة تفرضها الضرورة. معامل تعبئة المياه انتشرت في ريف دمشق، رغم تحفظ الكثيرين عليها. “لا أثق بهذه المياه المعبأة”، يقول محمد (41 عاماً) وهو صيدلاني. “لكن ماذا نفعل عندما ينقطع الماء لأيام؟”.
أما نادر (28 عاماً)، المهندس الذي عاد حديثاً من ألمانيا، فيرى أن الحل يكمن في التكنولوجيا. “نحتاج إلى نظام حديث لإدارة المياه، واستثمار في تحلية المياه الجوفية”، يقترح. لكنه يعترف بأن “هذه الحلول تحتاج إلى استثمارات كبيرة في وقت تعاني فيه البلاد من أزمات متعددة”.
المفارقة المؤلمة أن دمشق، المدينة التي كانت مثالاً للإدارة المائية الناجحة لقرون، تجد نفسها اليوم عاجزة عن تأمين أبسط حقوق مواطنيها. قصص الأهالي تروي كيف تحول الماء من نعمة مسلم بها إلى هاجس يومي.