البيت هو مرآة الروح، هوية الفرد وجذره، ذاكرة الأجداد وهمسات الأمهات على النوافذ، رائحة الياسمين في أروقة الصباح. ومثل كثيرين، كان حامد يعرف أن بيته الذي اشتراه في الثمانينيات من أحد فلاحي المنطقة، ليس طابواً أخضر مرصوصاً في السجلات، بل حكماً قضائياً، مرّ عليه الزمن، لكنه كان كافياً وقتها ليمنحه حلم الاستقرار.
وفي مكان آخر، كان أحدهم يُراقب كومة من الركام في الحجر الأسود. تلك الأكوام كانت له بيتاً. بيتاً بناه حجراً فوق حجر، بحصيلة عمر من الكدح، ليصير في النهاية ذكرى مغبّرةً لا تثبتها ورقة، ولا يحميها قانون. “كيف أثبت أنّ هذا الركام كان بيتي؟”، يتساءل بحسرة.
إنها ليست مجرد مأساة فردية، بل سؤال وجودي يطعن في حق الإنسان في ذاكرته، في بيوته، في أن يقول: “هذا لي”.
في سوريا، الممتدة في تعقيداتها الإدارية كما تمتد أزقتها في التاريخ، يصبح إثبات ملكية بيت أشبه بمطاردة سراب. الطابو الأخضر، هذه الوثيقة الرسمية الصادرة عن السجل العقاري، كان ولا يزال أقوى الأدلة في معارك الملكية.
لكن كم من البيوت بُنيت بأحلام الفقراء؟ كم من الحارات توسعت بعشوائية لا تعترف بها دفاتر الدولة؟
هؤلاء لا يملكون طابواً، بل يملكون أحكام محاكم، أو عقود بيع من فلاحين أو مواطنين، أو شهادات شهود أحياء على ذاكرة المكان.
وحين يغيب الطابو، لا مفر من إثبات الملكية عبر وسائل بديلة: شهادات الجيران، فواتير الكهرباء والماء، صور قديمة، حتى عقود الإيجار والمراسلات القديمة تصبح شواهد إثبات. وكأن الذاكرة الفردية باتت هي الوثيقة البديلة.
بيت حامد صار عرضة للتأويلات. اشتراه الغرباء من مكتب عقاري. لا أحد سأل عن حامد. لا أحد بحث في سجل الذاكرة.
في الحجر الأسود، في السيدة زينب، في داريا، بل في دمشق القديمة ذاتها، وفي أحياء مدينة حلب وحمص ودرعا تتكرر ذات الحكاية: “خرجت هارباً دون أوراق تثبت من أنا حتى”، هذا ما قاله وأكده كثيرون، وكأنهم يلخصون مأساة شعب بأكمله. كيف تحولت عقود البيع إلى أحجيات قانونية؟
أحكام محاكم اعتُبرت بديلاً مؤقتاً للطابو الأخضر، لكنها ظلت في عُرف القانون أوراقاً أضعف من سند الملكية الرسمي.
في المقابل، ازدهرت مكاتب عقارية تبيع وتشتري فوق هذا الفراغ القانوني. وفي ظل الفوضى، ضاعت الحقوق بين أصابع السماسرة والمصالح المتشابكة.
كثيرون باتوا ينتظرون قرار حكم المحكمة. ربما يعلمون في قرارة أنفسهم أنَّ العدالة بطيئة، وأن الزمن في دمشق، وفي غيرها من المدن، يسير على إيقاع مختلف.
الحرب في سوريا لم تكن مجرد صراع مسلح، بل كانت أيضاً حرباً على الذاكرة، على الأمكنة، على الحق في الانتماء.
البيت صار ساحة معركة، لا بالرصاص، بل بالأختام والأوراق الرسمية. كل باب مغلق يُخفي خلفه قصة طرد، قصف، بيع قسري، أو تزوير عقود.
وكأن الحجر صار ناطقاً، يَحكي عن أزمنة كان فيها المكان عنواناً للهوية، لا مجرد بند في دفتر عقاري.
لعل السؤال الأعمق ليس: “هل يمكن إثبات ملكية بيت؟”، بل: “هل يمكن استرجاع المكان بوصفه امتداداً للذات؟” في مدن الحروب، البيوت التي تُسرق، تُسرق معها الأرواح.
وفي وطن مثقل بالخراب، كل دعوى تثبيت ملكية ليست مجرد ملف في محكمة، بل معركة وجود. وسوريا كلها تنتظر يوماً تعود فيه البيوت إلى أسمائها، تعود الأزقة تنادي سكانها بأسمائهم الأولى.