لكل السوريين

دير الزور تتغير… المرأة تصعد من الهامش إلى القيادة… والشباب يرسمون طريق المستقبل

في مشهد لا يشبه الأمس، تقف دير الزور اليوم عند مفترق طرق تاريخي، حيث تكتب النساء والشباب سطور جديدة في قصة هذه المدينة التي عاشت عقود من التهميش والحرب والهيمنة الذكورية. ففي قلب هذا التحول الاجتماعي والاقتصادي العميق، تبرز أصوات نسائية صاعدة من الظل إلى القيادة، ويعلو صوت جيل شاب لا ينتظر حلول من الخارج، بل يرسم ملامح مستقبله بإرادة ذاتية ومبادرات محلية.

المرأة التي كانت لسنوات طويلة خارج دائرة الفعل المجتمعي، تجد نفسها اليوم في موقع الفاعل والمبادر. من محل صغير تفتحه امرأة أمية، إلى مجلس محلي تتقاسم فيه السلطة مع الرجل، تتسع خارطة التغيير النسوي في دير الزور بشكل غير مسبوق. هذه التغيرات لم تحدث دفعة واحدة، لكنها جاءت نتيجة تحولات متراكمة، أبرزها سقوط الهيمنة المتطرفة، وظهور الإدارة الذاتية التي قدمت نموذج تشاركي جديد.

لطالما حُصرت خيارات النساء في دير الزور ضمن مسارين تقليديين: التعليم أو التمريض، وغابت النساء غير المتعلمات عن أي نشاط عام. لكن السنوات الأخيرة شهدت بروز نماذج نسائية خارجة عن هذا القيد، إذ بدأت نساء أميات بإنشاء مشاريعهن الخاصة، مثل متاجر لبيع الأطعمة المنزلية أو المنتجات اليدوية. هذه المشاريع، رغم بساطتها، تعكس تحولات عميقة في مفهوم الدور النسائي، وتفتح آفاق جديدة أمام النساء المهمشات تاريخيًا.

هذه المتاجر ليست فقط وسيلة لكسب الرزق، بل هي إعلان صريح عن استقلال المرأة، وقدرتها على تولي زمام حياتها، حتى دون شهادات أو تعليم نظامي. تقول إحدى السيدات، وهي تدير مشروع منزلي بسيط: “لم أتعلم القراءة والكتابة، لكنني أعرف كيف أطبخ، كيف أتعامل مع الزبائن، وكيف أدير مالي. وهذا يكفيني كي أشعر أنني أقف على قدمي”.

هذا التغيير لم يمر بسلاسة. فقد واجهت النساء مقاومة مجتمعية قوية، مبنية على سنوات طويلة من الإقصاء والوصاية. النظرة السائدة كانت تحصر المرأة في أدوار منزلية فقط، وتعتبر خروجها إلى العمل نوع من التمرد على الأعراف. لكن تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية القاسية، وتحفيز البيئة السياسية الجديدة التي تدفع نحو مشاركة المرأة، بدأت هذه العقلية تتراجع شيئًا فشيئًا.

أصبحت المرأة حاضرة في المجالس المحلية، وفي الحوارات العامة، وحتى في المواقع السياسية القيادية. هذا الصعود لم يكن نتيجة قوانين فقط، بل بفعل إرادة نسوية جماعية تجاوزت الخوف، وتمسكت بحقها في الوجود والمشاركة والتأثير.

إلى جانب الحراك النسوي، برز جيل شاب لم يرث سوى الهدم والبطالة وضعف البنية التعليمية. لكن بدلًا من الاستسلام، قرر كثير من هؤلاء الشباب أن يصنعوا التغيير بأنفسهم. في ظل غياب فرص العمل الرسمي، بدأوا في تشكيل مجموعات تطوعية تعمل على حملات نظافة، وورش توعية صحية واجتماعية، ومشاريع تقنية أو حرفية صغيرة.

هذا الجيل لا ينتظر، بل يبادر. لا يبحث عن الخلاص في الخارج، بل يصنع حلول واقعية من الداخل. يقول أحد هؤلاء الشباب: “تعلمت تصميم الغرافيك من خلال الإنترنت، وبدأت أقدّم خدماتي للمؤسسات المحلية. لم أكن بحاجة إلى شهادة، بل إلى جهاز حاسوب، وشغف بالتعلم، ورغبة في التغيير”.

هذه التغيرات لم تبقَ خارج جدران البيوت، بل وصلت إلى داخل الأسرة. فقد بدأت كثير من العائلات تتبنى مفاهيم جديدة تقوم على الشراكة في اتخاذ القرارات، بدلًا من التراتبية التقليدية. أصبحت العائلات تقبل أن تعمل النساء خارج المنزل، وأن يشارك الأبناء في إعالة الأسرة، أو حتى في قرارات تخص مستقبلها الاقتصادي. هذا التحول، الذي كان مستحيل قبل سنوات، يشير إلى عمق التغيير الذي يمر به المجتمع الديري.

ما يجري اليوم هو صعود لوعي جديد، قوامه التمكين والاعتماد على الذات والتعليم المستمر. بين النساء والشباب، تسود اليوم مفاهيم جديدة تعيد تعريف الذات والدور والمكانة. المرأة لم تعد ترى نفسها مجرد تابع أو مكمّل، بل فاعلة وصاحبة قرار. والشاب لم يعد ينتظر أن تُفتح له أبواب المؤسسات، بل بدأ في بناء مؤسسته الخاصة ولو من غرفة صغيرة.

ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، لا تزال التحديات كبيرة. فهناك بيئات اجتماعية لا تزال ترفض الاعتراف بدور المرأة الجديد، وهناك نقص حاد في مراكز التدريب والدعم، فضلًا عن فجوة واضحة بين طموحات الجيل الشاب والإمكانات المتاحة. كما أن أغلب المشاريع النسائية والشبابية تفتقر إلى التمكين المالي والاحتضان المؤسسي، مما يهدد استمراريتها وفاعليتها على المدى الطويل.

ما يجري في دير الزور ليس زوبعة في فنجان، ولا تغير شكلي، بل هو تحول عميق في الوعي والممارسة. تقوده امرأة خرجت من دائرة الأمية إلى ريادة الأعمال، وشاب قرر أن ينهض من تحت الركام بأدوات بسيطة، وشغف كبير بالحياة. هذان ليسا حالتين فرديتين، بل دلائل حيّة على أن المجتمع بدأ يستعيد قدرته على الحياة.

هذه المدينة التي عاشت الألم، والتهميش، والدمار، تكتب اليوم فصل جديد من فصول تعافيها، بأيدي أبنائها وبناتها. لا انتظار لمبادرات خارجية، ولا اتكاء على وعود المانحين. التغيير هنا يأتي من البيت الصغير، من المتجر البسيط، من فكرة جريئة، ومن إيمان عميق بأن الغد لا يُصنع بالتمني، بل بالفعل

في دير الزور، لم تعد المرأة حبيسة الجدران، ولا الشاب منتظر للفرص. من محل صغير تديره امرأة أمية إلى مبادرة شبابية تغيّر الوعي المحلي، يتشكل واقع جديد، يقوده المجتمع بنفسه نحو مستقبل يستحق الحياة.