تقرير/ جمانة الخالد
بأريحيةٍ تامّة، تستطيع النساء داخلَ صالونات الحلاقة والتجميل الخوضَ في أكثرِ أسرارهنّ حميمية، والإدلاء بآرائهنّ في الرجال وفي العلاقات وفي الزواج. ما يجعل صالونات التجميل منفساً للنساء في زمن الحرب.
سواء كانت صالونات راقية تقدّم خدماتٍ غالية الأثمان، أو صالوناتٍ داخل أزقّة أحياء شعبية توفّر خدماتٍ تجميلية بأثمانٍ رخيصة، يبقى طابعُ الحكي والنميمة هو السائد في كلّ صالونِ حلاقةٍ للنساء. فهل يرجعُ ذلك إلى كونِ صالونات الحلاقة النسائية مجالاً تجدُ النساء فيه حرّيتهنّ في التعبير عمّا يجول في خواطرهنّ ويعتمل في دواخلهنّ، أم لأنّ طبيعة النساء المتّسمةِ بالرغبة الدائمةِ في الحكي هي التي تجعل هذه الأماكن مفعمةً بالحكايات والأسرار.
ومنذ سقوط النظام قبل أربعة أشهر، تشهد البلاد مرحلة انتقالية مليئة بالتناقضات: الانهيار يقابل الأمل، والركام يجاور الرغبة في الحياة. الشوارع ما زالت تحمل آثار الصراع، والناس يمضون وسط اللا يقين. لكن في زحمة هذا المشهد، تبرز أسئلة صغيرة لا تقل أهمية عن الأسئلة السياسية الكبرى، من بينها سؤال بسيط في ظاهره، لكنه شديد الرمزية: هل ما زالت النساء يذهبن إلى صالونات التجميل؟
قد يبدو السؤال ثانويا، لكنه يحمل في داخله دلالات على محاولات الإنسان التمسك بالحياة حتى عندما تنهار من حوله. الجمال هنا ليس مجرد رفاهية أو ترف، بل هو وسيلة للبقاء النفسي، أداة مقاومة وسط الركام.
وفي بيئة مليئة بالصراع والانهيار، يعيد العديد من الناس اكتشاف أهمية بعض الطقوس اليومية التي كانت قد تبدو مجرد رفاهيات. الذهاب إلى صالونات التجميل لم يعد فقط من أجل العناية بالمظهر، بل أصبح بالنسبة لكثير من النساء مساحة للتنفيس ولإيجاد شعور بالطمأنينة وسط الفوضى.
تقول صاحبات صالونات تجميل إنه على الرغم من الظروف الصعبة، يأتي الزبائن أكثر للراحة النفسية. الصالون أصبح بالنسبة لهم ليس فقط مكانا للجمال، بل مساحة للراحة لأن أثر الجمال على نفسيتنا مهم جدا.
وجعلت الأوضاع الاقتصادية في الوقت الحالي من الصعب الاستمرار، حيث المصروف أصبح أكبر من الوارد بسبب الأجرة المرتفعة وغياب الكهرباء، مما جعلنا نعتمد على الطاقة البديلة، وهو أمر مكلف. ومع ذلك، تظل تجربة الزبائن في الصالون تجربة إيجابية من الناحية النفسية، حيث تصفها كثيرات بأنها “مكافأة لأنفسهن”.
في الأوقات الصعبة، تصبح الطقوس اليومية أكثر من مجرد عادات روتينية بالنسبة لكثير من النساء، فإن الجمال هو شكل من أشكال المقاومة الداخلية ضد الضغوط والظروف القاسية. الجمال هنا ليس هروبا من الواقع، بل هو طريقة لإعادة رسم شعور داخلي بالسيطرة والكرامة.
وتؤثر الأوقات الصعبة، مثل الحروب والنزاعات، بشكل عميق على الوعي الذاتي للأفراد وعلى كيفية تعاملهم مع أنفسهم في ظل الظروف القاسية. حيث يتعرض الدماغ إلى ضغط نفسي هائل، وهذا يدفع الأشخاص بشكل طبيعي للبحث عن طرق لإعادة الشعور بالأمان والسيطرة. أحد الأساليب الشائعة لتحقيق ذلك هو اللجوء إلى طقوس الرعاية الذاتية مثل الذهاب إلى الصالونات أو العناية بالمظهر الخارجي.
وذلك يعد ظاهرة نفسية معروفة بـ “تأثير الحمامة” أو ما يُسمى بـ “استراتيجية السيطرة” التي يلجأ لها البشر في الأوقات العصيبة. وهي عندما يواجه الشخص ضغوطا نفسية شديدة، يصبح من الضروري له إيجاد طرق تعيد له الشعور بالسيطرة على حياته. الجمال والمظهر الخارجي هنا لا يتعلقان فقط برغبة سطحية في التحسن، بل هما وسيلة لاستعادة جزء من التحكم في الذات وسط الفوضى.
فالذهاب إلى الصالونات لا يعد مجرد عمل تجميلي بحت، بل هو فعل نفسي عميق. في أوقات الأزمات، يصبح الاهتمام بالمظهر الخارجي جزءاً من استراتيجية أكبر لإعادة النظام والقدرة على التكيف. الناس يقومون بذلك لأنهم يبحثون عن تجديد طاقتهم الداخلية، وهذا يساعدهم في استعادة شعورهم بالاستقرار.
وتُعتبر ظاهرة “تأثير أحمر الشفاه” من أبرز الأمثلة التي تُظهر كيف أن الجمال يمكن أن يصبح وسيلة للبقاء النفسي في فترات الأزمات. نشأت هذه الظاهرة في الحرب العالمية الثانية عندما كان الاقتصاد في حالة انهيار شديد، وكانت الموارد شحيحة، لكن النساء واصلن شراء أحمر الشفاه، رغم قلة المال. فقد أظهرت الدراسات أن النساء كنّ مستعدات على الرغم من الظروف القاسية، أن يخصصن جزءا من دخلهن لشراء مستحضرات تجميل، خصوصا أحمر الشفاه، ليحافظن على شعورهن بالجمال والأنوثة.
هذه الظاهرة تحمل دلالة قوية: في أوقات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، قد تُصبح بعض الأشياء الصغيرة مثل أحمر الشفاه وسيلة لإعادة شعور بالتحكم والراحة النفسية. عندما يواجه الناس الفوضى، يبحثون عن طرق يشعرون فيها بأنهم قادرون على الحفاظ على جزء من هويتهم، فيحاولون أن يظلوا جميلين، ليس من أجل الآخرين، بل من أجل أنفسهم.
في حين تتغير الظروف الاقتصادية وتزداد التحديات، يظل تأثير الصالونات على حياة النساء قويا، سواء من الناحية النفسية أو الاجتماعية. ومع تراجع المساحات الآمنة في المجتمع، تجد العديد من النساء في الصالونات مكانا يشبه “المقدس”، حيث يمكنهن التواصل والحديث في جو من الراحة والأمان. يقول بعضهم إن هذه الصالونات تمثل ملاذا في عالم مضطرب، حيث تتحول هذه المساحات إلى أكثر من مجرد أماكن تجميلية. فهي تتحول إلى ملاذات آمنة ومجتمعية، تقدم للنساء لحظات من السلام الداخلي.
في زمن التحولات الكبرى، قد تبدو بعض الطقوس مثل الذهاب إلى الصالون مسألة ثانوية، ولكنها في الحقيقة تعكس الحاجة البشرية إلى الحفاظ على الروتين والراحة النفسية في مواجهة التحديات. ونرى أن الجمال في زمن الأزمات ليس مجرد ترف، بل وسيلة للبقاء النفسي والمجتمعي. الجمال هنا ليس هروبا بل هو مقاومة، هو فعل من أفعال البقاء في عالم يعصف به الركام.