لكل السوريين

الحرية لم تأتِ بعد.. المغيّبات السوريات في انتظار العدالة

تقرير/ جمانة الخالد

مع سقوط نظام بشار الأسد أواخر العام الماضي، تسلّل بعض الأمل إلى قلوب العائلات التي فُقدت نساؤها خلال سنوات الحرب. عائلات علّقت آمالها على أن تحمل المرحلة الجديدة إجابات، أو على الأقل بوادر لانفراج ملف الغائبات في سجون النظام ومعتقلاته، والذي لم يكن يُفرّق بين طفل وامرأة، ولا يتورع عن ارتكاب المجازر المروّعة في دوما وحرستا والقابون وداريا والمعضمية.

ومنذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011 لم تكن النساء عنصراً هامشياً على جانبيها، بقدر ما كانت عنصراً مثقلاً أوضحت الأيام كم سيحمل من الألم المساق على فصول مجتمع خَبِرَ انتهاك الأعراض والحرمات والتغييب القسري لهنّ، إخفاءهنّ، تعذيبهنّ، ابتزاز ذويهنّ بهنّ، وقتلهنّ في أحيانٍ كثيرة. قتل النسوة التي شاركت في تظاهرات لا حدود لها قبل أن تتعسكر الثورة ويتحولن إلى رهائن واقعٍ دموي كنّ يسعين منذ البداية إلى تغييره، المغيبات اللاتي فجعن بمقتل ذويهنّ قبل ذلك، باعتقالهنّ، بتغييبهنّ، قبل أن يصرنَ هنّ الشهيدات والشاهدات.

سقوط ذاك النظام الذي أُسقطت معه الأجهزة الأمنية والعسكرية دفعةً واحدة أدّى لفوضى مركبةٍ خلاف ما كان متوقعاً من مجيء أخبار آملة بالفرج لهنّ، صار الوضع أكثر تعقيداً مع أيام التحرير الأولى، الأيام التي جرى فيها البحث عن آلاف النساء المغيبات في أقبية أفرع المخابرات والسجون مع إنكار تامٍ لوجودهنّ من قبل النظام قبلها.

ولعبت الميليشيات دوراً كبيراً في حالات الاختطاف جلّها يتعلق بأسباب انتقامية أو مذهبية أو مادية، وعلى رأس تلك الميليشيات “الدفاع الوطني” وما سُرب من وثائقه بعيد سقوط النظام، رفقة جماعات أخرى ترتبط بالأمن العسكري و”الفرقة الرابعة” كجماعة شجاع العلي في ريف حمص والذي قتل في عملية أمنية للسلطات الجديدة في وقت سابق، فضلاً عن مجموعات المخابرات الجوية عبر تبعية تنظيمية غير مباشرةٍ أصولاً. وهؤلاء تمرسوا في الخطف على الحدود ودروب اللجوء، ليمحوا مع بقية شركائهم أثر نسوة وفتيات ويقفلوا أبواب أسرارها حتّى اليوم. الأسرار الأكثر في الغالب الأعم وذلك لأنّ أخريات عثر عليهنّ، عددٌ قليل ربما.

على الأقل حتى أواسط عام 2022 بلغ عدد المغيبات قسرياً 9774 وفق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، وهو عدد لا شك ازداد مع السنتين اللاحقتين، غالبيتهنّ لم يعرف مصيرهنّ حتى اليوم، ورغم سيل الوعود الذي جاء مع سقوط النظام بفتح هذا الملف الحساس والشائك إلّا أنّ تحركاً فعلياً لم يحدث.

تلك الأحوال بعيد انتظار طويل حطمّت آمال عائلات تدرك معنى فقدان الأم أو الأخت أو الابنة، أولئك كلّهم كانوا ينتظرون على جمر فتح هذا الملف بشكل رسمي وعلى أعلى المستويات، وأن تبدأ السلطات الجديدة بتحقيقات نزيهة وشفافة رفقة لجان محلية وأهلية وتطوعية بمعونة فرق كشف وبحث أممية إنسانية وحقوقية وجنائية لكشف مصيرهنّ المبهم.

منذ سقوط النظام السابق وحتى الآن جرى اختطاف 50 فتاة على أيدي مجموعات مجهولة، معظمهنّ ينتمين لمكونٍ واحد، في ظلّ صمت رهيب ومطبق عن الملف وغياب أي معلومات مفيدة تشير إلى أماكن تواجدهنّ، اختطفن من الطرقات والساحات والشوارع، ليلاً ونهاراً، في سلسلة عمليات بدت ممنهجة دون تغطية إعلامية ترقى لمستوى الحدث، وجلّ المختطفات من حمص والساحل السوري، بحسب توثيق “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.

في بعض الحالات قيل على مواقع التواصل الاجتماعي وفي المجتمعات المحلية إنّ الفتيات هربن مع عشيق كحادثة سلافة شحود المنحدرة من مدينة حمص، والتي انتشر خبر اختطافها في شهر شباط/فبراير الماضي ليتبين العكس لاحقا، وفي حالات أخرى عدن متزوجات، وفي الحالين لم تقنع تلك السيناريوهات السوريين بشكل تام.

هؤلاء العائدات لسن من ضمن الستين مختطفة بطبيعة الحال، ولعلّ أبرز قصص الاختفاء والعودة ارتبطت مؤخراً بقضية الشابة ذات العشرين عاماً ميرا جلال ثابت التي غابت عشرة أيام ثم عادت متزوجة لأهلها في ريف حمص مرتديةً “البرقع” الأفغاني، في رواية لا زالت حتى اليوم مثار حديث السوريين بين مشكك ومصدق. رغم أنّ الفتاة نفسها ظهرت مع زوجها في أكثر من مقطع مصور تشرح فيه أنّها هربت من منزل عائلتها بمحض إرادتها تحت دوافع ترتبط بالحب وبرفض أسرتها للشخص الذي تزوجته.

يرى كُثر من السوريين أنّ استهداف بناتٍ بعينهنّ دون غيرهنّ هو نتيجة حتمية لحالة ثأرية انتقامية محمولة على دوافع طائفية كرّسها النظام المخلوع، إذ أنّ حالة الغليان في الشارع من كل ما يرتبط بآل الأسد لم يتمكن من محو أثر الظلم الطويل والمرير من التفريق بين طائفةٍ موجودة أساساً وطائفة صنعها الأسد، أي بين طائفةٍ ما والطائفة الأسدية التي كانت تضم كل وجوه الإجرام القائم على الولاء المطلق للقائد الرمز.

والدافع وراء إطلاق سراح بعض المختطفات بعيد افتضاح هوية الجهة الفاعلة كان الاستخبارات السورية بجهاز أمنها العام الذي وقف وراء عمليات تحرير متعددة، بينها في دمشق وريفها فقط عشر حالات على الأقل، تلك العمليات والأساليب التي اعتمدت غالباً ما يتحفظ الجهاز الأمني عن ذكر تفاصيلها ليتمكن من متابعة ملفات مشابهة وتحقيق نجاحات متساوية.

بيدَ أنّ الحالة تلك بعمومها جعلت عدداً من النسوة حبيسات منازلهنّ في مدنٍ محددة على رأسها حمص بحسب ما يمكن استطلاعه بسهولة من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي والتواصل المباشر مع المحيط والمجتمع، وفي حمص التي يتفشى فيها القتل المباشر والاختطاف لدرجة باتت تبدو فيها أحياء كثيرة (كالزهراء والأرمن والعباسية والمضابع والبياضة وكرم اللوز وكرم الزيتون والنزهة وعكرمة القديمة والسبيل وغيرهم) تفتقر للحياة، إذ تغلق أبواب منازلها مع ساعات ما بعد الظهيرة، وتصير النسوة لا يجرأن على مغادرتها.

يتبرأ جهاز الأمن العام من تلك الممارسات علناً، ومعه وزارة الدفاع، بل يحملون المسؤولية لعناصر إجرامية منفلتة تستوجب محاسبتها، واللافت أنّ الجهاز لا يتمكن بشرياً من تغطية كل المناطق بذات الجودة والفاعلية.

حتى الآن يتحفظ الأمنيون على ذكر أسمائهم خلال الإدلاء بأحاديث أو معطيات ميدانية تخص الواقع الداخلي، يرجع ذلك لما يبدو أنّه تعليمات وزارية بالمقام الأول، وحسابات أمنية بالدرجة الثانية، وأسبابٍ شخصية تحافظ على المسافة الآمنة المطلوبة في عدم التورط بما يحتاج مستوياتٍ عليا لبحثه ونقاشه والبتّ فيه دون تفويض مباشر للمستويات الأدنى.