لكل السوريين

السلم الأهلي في سوريا.. مطلب ملح في مواجهة التحريض والفقر والتفكك المجتمعي

صباح خليل

في خضم ما تعانيه سوريا من أزمات متلاحقة وتوترات اجتماعية وسياسية واقتصادية متفاقمة، تتجدد الدعوات للحفاظ على السلم الأهلي باعتباره أحد أهم أعمدة بناء المجتمع، وضمانة لعدم الانزلاق نحو مزيد من الصراعات والانقسامات الداخلية التي تهدد وحدة البلاد ونسيجها الاجتماعي.

السلم الأهلي هو التزام بالتعايش بين جميع المواطنين مع بعضهم البعض، يقوم على احترام كل فرد للآخر، والدفاع باتجاه التعايش السلمي على أساس القاعدة الأهلية الإنسانية الواحدة لا على الاضطرار، وذلك من خلال رفض جميع أشكال الاقتتال أو الدعوة إليه أو التحريض عليه، سواء بالمنطق الواعي أو بالعقائد الدينية أو القومية أو الحزبية، التي تؤدي إلى إنتاج الحرب الأهلية في المجتمع. إذ أن هذه الحروب تؤدي إلى تفسيخ البنية الأساسية لأي مجتمع.

المجتمعات التي تنعم بالسلم الأهلي تكون أكثر قدرة على تجاوز الأزمات، لأن الأزمات لا تنتهي بدون استقرار، والاستقرار لا يتحقق بدون وجود سلم أهلي حقيقي يمنع الانقسامات والصراعات الداخلية، ويحمي النسيج المجتمعي من التمزق. فالثقة المتبادلة بين أبناء المجتمع تُعد الأساس في بناء السلام المجتمعي، وهي شرط لتعزيز العلاقة بين الدولة والمواطن.

ولتعزيز السلم الأهلي، لا بد من نشر ثقافة الحوار وقبول الآخر، وتعزيز دور المؤسسات في المجتمع المدني، وترسيخ مبادئ العدالة والمواطنة المتساويتين، ودعم الإعلام المسؤول، وتمكين الشباب والنساء كمحركات للتغييرات الإيجابية. فدور الفرد والمجتمع أساسي في بناء السلم الأهلي، سواء من خلال الكلام أو الفعل، أو حتى بتجنب نشر الفتنة، سواء في البيت أو الحي أو المدرسة أو المؤسسة. فكل مساحة يمكن أن تكون نواة لبناء السلام الحقيقي.

لكن هذا السلم الأهلي مهدد بعوامل كثيرة، منها: التنمر، الإقصاء، خطابات التحريض والكراهية، الفقر، البطالة، وغياب القانون أو سوء تطبيقه. فالفقر والفساد كفيلان بتدمير المجتمع من الداخل، وكفيلان بإسقاط نسق السلم الأهلي من جذوره.

كجوهرة للسلم الأهلي، لا بد أن يشعر المواطن السوري بأنه متساوٍ في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن انتمائه أو توجهاته، وأن له نفس الأهمية في أن يعيش حياة كريمة بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي. إذ لا معنى لأي سلم أهلي حيث يكون الجوع والفقر هو السائد، ولا يمكن بناء سلم حقيقي في ظل غياب الكرامة المعيشية.

ولا يجب أن يُنسى أن خروج السوريين إلى الشوارع عام 2011 لم يأتِ من فراغ، بل كان خروجاً له أسبابه المتعلقة بالكرامة، بمعناها الاقتصادي والمعيشي، حيث شكّلت غلبة نسبة الفقر في سوريا دافعًا رئيسيًا للاحتجاجات، ومسبباً لنزاعات تالية.

وللحفاظ على السلم الأهلي، فإن العمل يجب أن يكون من أجل مواطنة متساوية، ومن أجل لقمة عيش كريمة تضمن للشعب السوري الاستقرار، وتمكّنه من تأمين مستقبل أولاده وأهله.

ويُعتبر الحوار الفعّال بين الثقافات عملية ضرورية تهدف إلى تعزيز التفاهم المتبادل، وتجاوز الفجوات الثقافية. لتحقيق ذلك، لا بد من الاستماع للطرف الآخر دون مقاطعته، واحترام الاختلاف، والاعتراف بقيمته وأثره، وتقدير الثقافات المختلفة من خلال التعرف على جوانبها الإيجابية ومساهماتها.

استخدام لغة بسيطة وواضحة، والابتعاد عن المصطلحات غير المفهومة، والاستعداد لتعديل أسلوب التواصل بما يتناسب مع الطرف الآخر، كلها عوامل تساعد على تحقيق تفاهم أعمق. ويجب تحقيق توازن بين مشاركة الأفكار الخاصة والاهتمام بكلام الآخرين، فالتواصل الناجح يقوم على الأخذ والعطاء. كما يجب البحث عن القواسم المشتركة بين الثقافات، مثل القيم الإنسانية والاحترام.

وفي حال حدوث سوء تفاهم أو خلاف في القيم، يجب التعامل بطريقة بناءة، والتفكير في حلول ممكنة بدلاً من التمسك بالخلافات. واحترام العادات والتقاليد الخاصة بالثقافات الأخرى، والامتناع عن فرض ثقافة معينة على الآخرين، يُعد أمراً أساسياً في هذا السياق.

التفاهم الأسري يُعد عنصراً أساسياً في بناء مجتمع صحي وسليم، حيث إن العلاقات الأسرية المبنية على التفاهم تساهم في بناء مجتمع آمن ومستقر، وتعزز الدعم العاطفي، وتحسّن الصحة النفسية لأفراد الأسرة، وتزيد من التعاون والتواصل الإيجابي. فالتفاهم داخل الأسرة ليس ترفاً، بل أساس رئيسي لبناء المجتمع.

وتُعد الصراعات الدينية والعرقية من الظواهر المقلقة التي أثّرت على المجتمعات عبر التاريخ. فخلال الزمن الطويل نشأت توترات وصراعات وحروب واحتلالات، تراكمت خلالها مشاعر سلبية عبر الأجيال، مما ساهم في استمرار هذه الصراعات. ويزيد النزاع على الموارد الاقتصادية من حدة التوتر بين الجماعات، نتيجة التنافس على الموارد الطبيعية مثل المياه والأراضي، حيث تعطي البيئة الاقتصادية الفقيرة الشرارة الأولى للصراع.

الفوارق الاقتصادية في توزيع الثروات تؤدي إلى التمييز والضغينة بين الجماعات. كما أن صراعات السلطة والسيطرة، بما فيها التمييز والاستبعاد والتفرقة، تتمأسس أحياناً على أسس عرقية ودينية. فاختلاف العادات والتقاليد، والرموز الثقافية والدينية، قد تتحول إلى مبررات للتمييز والاعتداءات.

أما على الصعيد النفسي، فإن الانتماء إلى مجموعة عرقية أو دينية قد يكون مصدر فخر، لكنه في بعض الأحيان قد يتحول إلى تعصّب وعنصرية تجاه المجموعات الأخرى. كما أن الخوف من المجهول أو من الاختلافات الدينية والثقافية، قد يؤدي إلى تضخيم الصراعات، ويجعل احتمالات وقوعها أكثر ترجيحاً.

ويُعد التلاعب الإعلامي أحد أبرز العوامل التي تساهم في تأجيج الصراعات، من خلال الترويج لرؤى وتصورات سلبية عن جماعات معينة. كما أن الاختلاف بين العقائد والمعتقدات قد يؤدي إلى سوء تفاهم، خاصة إذا كان تفسير بعض النصوص الدينية تفسيراً متشدداً.

ويُستخدم الدين أحياناً على المستوى السياسي كوسيلة لجمع الدعم وتبرير الأعمال العدائية، وإثارة الفتن بين الأطراف المختلفة. وتتداخل أسباب الصراعات الدينية والعرقية بشكل معقد، وغالباً ما تتفاعل هذه العوامل مع بعضها البعض، مما يجعل من الصعب إيجاد حلول بسيطة لها. وهذا يتطلب عملاً شاملاً يأخذ بعين الاعتبار الجوانب التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية كافة، للوصول إلى سلام مستدام في سوريا.