لكل السوريين

الأم الرقية مدرسة فنية بالفطرة

الأم الرقية مدرسة فنية بالفطرة
في زمن ٍلم تدرك فيه المرأة الرقية التعليم في المدارس بعد، اعتمدت في تسيير أمورها الحياتية على أسس ورثتها عن الجدات وبدأت تضيف إليها ما ترتئيه من خلال ممارساتها اليومية في حقول الحياة وما يمليه عليها ذكاؤها الفطري، وحين عاصرت المرأة افتتاح المدارس، أخذت تشجع أولادها وبناتها للتعويض عمّا فاتها من فرصة العلم، ولكي تحفظ مستقبل أولادها ويكون لهم مكانة مرموقة في المجتمع.
فكانت تنقل لبناتها ما تعلمته من أمها أو جدتها أو جارتها مناهج الحياة اليومية من أمورا لطبخ والتنظيف، والخياطة والتطريز بالإبرة وغرس الأخلاق الحميدة في نفوسهن والطرق المثلى في التعامل مع الآخرين.
فتقوم الأم بتدريب ابنتها على أمور المطبخ، مدركة ببساطة (أنّ أقصر طريق إلى قلب الرجل هو معدته)، فتطلب منها مرافقتها ومساعدتها فتأمرها أن تفتّح عينيها وعقلها أثناء إعداد الوجبات الغذائية وخاصة الصعبة منها كالكبة والسمبوسك والثريد بأنواعه، وعلى تنظيف الأواني وتجفيفها وإعادتها إلى مواقعها على الرفوف والخزن بشكل أنيق كي لا تتعرض لانتقاد الأخريات، ثم تقوم بتدريبها على مهنة الخياطة، التي تتقنها معظم النساء الرقيات.
وقد تعلمن هذه المهنة من النساء الأرمينيات اللواتي قدمن إلى الرقة وغيرها من المدن السورية بعد حرب الإبادة التي قامت بها تركيا للأرمن، وبعد انتشار ماكينات الخياطة في الأسواق، اقتنت كل ربة بيت ماكينة حتى أصبحت من ضروريات الحياة، وأصبحت ضمن أولويات جهاز العروس لفوائدها الجمة في البيت.
وحين تجد الأم فسحة من الوقت تقوم بتدريب ابنتها على عملية تطريز الوسائد والمفارش بالخيوط الحريرية الملونة بأشكال ورسوم مختلفة معتمدة على ما تختزنه في ذاكرتها من صور للأشجار والورود والعصافير وغيرها وتشتهر النساء الرقيات في المدينة والأرياف بالتطريز بطريقة تعرف باسم (الكنويشة) أما عند الأوروبيات فتعرف (بالكنفة).
وقد تطور هذا الفن بتطريزه على ثياب الأطفال وعلى قمصان النوم وأدخلته المرأة الريفية على اللباس العربي، فقامت بتطريز صدر الثوب وأكمامه، وينتقى اللون الأسود لتكون عملية التطريز جميلة ومبهرة مع الرسومات وألوان الخيوط الزاهية.
كنت من بين النساء المحظوظات اللواتي عاصرن جيلي الجهل والعلم فالتقطت من والدتي خبرة الجدات وعلومهن الفطرية الرائعة، وكنت أتحين العطلة الصيفية بفارغ الصبر لأخضع للتدريب في الفنون النسوية، وكان الدرس الأخير هو الأصعب الذي يعرف في مدينة الرقة باسم(التنتنة)وهو أحد الفنون الذي يتم بواسطة المخرز وخيوط الحرير البيضاء، ويدخل في تصميم المفارش وأطراف الوسائد وتطور إلى أغطية للطاولات والطربيزات وغيرها وهي تعتبر لوحة فنية لا تستطيع أي امرأة إتقانها، ثم قمت بتطويرها باستخدام خيوط الصوف وبدأت أصنع منها أشكال مختلفة من مستلزمات المرأة وأهمها ما يعرف (بالشال) الذي تُلقي به المرأة على كتفيها أو على ظهرها ليقيها من برد الشتاء، وابتكرتُ صناعة الجوارب الصوفية التي تخص النساء والرجال والأطفال، وتابعت ابتكار بطانيات للأطفال وقبعات وقمت بصنع أغطية لوسائد توضع على الأرائك وتعرف في الرقة باسم(تكاية) والفضل في ذلك كله ينبثق من فن (التنتنة) الذي التقطته من الأم والجدات كما نوهت سابقاً.
هذا وحين تجد الأم عدم استجابة إحدى بناتها لعلومها ودروسها، تغضب بشدة وتبدأ بتحليل علمي فطري فتوعز السبب في عدم الاستجابة لها بأنّ ابنتها تأثرت بموروث جاءها عن طريق عمتها أو جدتها أو..أو..وتنعت ابنتها بلفظة جارحة مؤنبة إياها بكلمات رقية دارجة مثل( مخبلة..مهبولة..غشيمة ..طرمة ..)وحين لاتجد من تنسب غباء ابنتها إليه من الأقارب تتذرع قائلة: ربما توحمت على فلانة.. مشيرة إلى إحدى فتيات الحي اللواتي تنطبق عليها مثل تلك المواصفات..
هذا وبالإضافة لكل ما تبذله، يتوقف نشاطها عن تلك التعاليم في فترة الدراسة فتكرس جهودها لرعاية أولادها وتهيئة الجو لدراستهم فتحثهم على الدراسة وتمنعهم من مغادرة البيت وتجلس بالقرب منهم وتبدأ بتسميع الدروس لهم وتوهمهم بأنها تجيد القراءة والكتابة، فتمسك بالكتاب وتأمرهم بتسميع الدروس والقصائد وحين تجدهم يتلكئون عند بعض الفقرات تضربهم وتأمرهم بإعادة الحفظ وأنها ستعود للاستماع إليهم بعد ساعة مهددة متوعدة بإنذارات لشتىّ العقوبات.
هكذا كانت الأم الرقية،حكيمة، ومربية، ومعلمة، وفنانة تدير شؤون البيت بعقل راجح وصبر على صروف الدهر ببساطة وذكاء فطري ولا تتوانى عن طرح مسؤولية المرأة بشكل علني أمام الصغار والكبار عن ضرورة اهتمامها ببيتها وأطفالها والحفاظ على إدارته، متوجة ذلك بمثل شعبي حفظته عن ظهر قلب(الرجل جنّا، والمرأة بنّا)..
ومعناه، أنّ مسؤولية الرجل أن يجني.. ومسؤولية المرأة أن تبني. وأول لبنة بناء المجتمع هو الأسرة التي تقود دفة سفينتها المرأة، فإن كانت حكيمة ستكون رباناً ناجحاً يقود السفينة ومن على متنها إلى شاطئ الأمان والنجاح والتفوق، وإن كانت عكس ذلك ستودي إلى الغرق.
أو ليست الأم الرقية ممن ينطبق عليها قول الشاعر: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق.