سوريا… حين تتكلم الريشة قبل الكلمة
على مرّ العصور، لم تكن سوريا مجرّد موقع جغرافي يتوسط العالم القديم، بل كانت مركزًا حضاريًا وثقافيًا لعب أدوارًا كبرى في تشكّل الهوية الجمالية للإنسانية. وإذا كانت اللغات والدساتير تتغير، فإن ما تبقى دائمًا هو الفن. في سوريا، لم يكن الفن التشكيلي ترفًا نخبويًا، بل لغة بصريّة ارتبطت بالحياة، بالطقوس، بالمعنى، وبالإنسان.
الفن التشكيلي في العصور السورية القديمة – ولادة الجمال في الطين والحجر
▪️ الحضارات الأولى: من عبادة الرموز إلى رسم الوجود
سوريا القديمة (3500 ق.م – 500 ق.م) كانت مهدًا لحضارات مثل إيبلا، ماري، أوغاريت، وتدمر، حيث تبلورت أولى أشكال التعبير الفني:
النقش والنحت الجداري: جدران المعابد والقصور كانت مساحات للرواية البصرية، تصور الملوك والآلهة ومظاهر الحياة اليومية.
التماثيل الطينية والحجرية: تماثيل الآلهة، رموز الخصوبة، والأبطال الأسطوريين.
الزخرفة الطقسية: استخدمت الألوان والمعادن في زخارف الشعائر، كما في الأواني الفخارية.
تدمر.. ذروة الجمال الهيلنستي
في القرن الأول الميلادي، صنعت تدمر توليفة فنية نادرة بين الفنون السورية المحلية والرومانية واليونانية، حيث تظهر الواقعية الرومانية على ملامح التماثيل الجنائزية التي زخرفت بها القبور، مع رمزية روحية شرقية.
الفصل الثاني: الفنون في العصر الإسلامي – من التحريم إلى التجريد العبقري
▪️ الخلق من دون صورة: تجريد المعنى البصري
بعد الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، تغيّرت مفاهيم التعبير الفني بشكل جذري:
الزخرفة والخط العربي: بديلاً عن التصوير، نشأت فنون الأرابيسك والمنمنمات، وتم استلهام اللغة البصرية من التجريد الهندسي والنباتي.
الفن المعماري الإسلامي: كجامع دمشق الأموي، وقصر الحير الغربي، يُعدّان من أبرز الأمثلة على الفن الإسلامي المتقن في سوريا.
بين المماليك والعثمانيين.. زخرفة دون روح تشكيلية
رغم ثراء الزخرفة في العصرين المملوكي والعثماني، لم يتح الفن التشكيلي الفرصة لنمو تيارات فردية تشكيلية، حيث بقي حبيس الأنماط التزينية والوظائف الدينية والمعمارية.
الفصل الثالث: النهضة التشكيلية الحديثة (1870 – 1960)
▪️ ميلاد اللوحة السورية الحديثة
مع بدايات القرن العشرين، بدأ الفنانون السوريون السفر إلى أوروبا ومصر، وانبهروا بالمدارس الكلاسيكية والواقعية والتأثيرية. وقد عُدّ ذلك بمثابة الانطلاقة الحقيقية للفن التشكيلي السوري الحديث.
تأسيس معاهد الفنون: أبرزها معهد الفنون الجميلة في دمشق (1960).
الاتجاه نحو الأكاديمية: ظهرت تجارب واقعية وتشخيصية، ركزت على البيئة السورية والهوية الوطنية.
أبرز الأسماء:
ميشيل كرشة: من أوائل من أدخلوا الرسم الأكاديمي إلى سوريا.
محمود جلال: أحد رواد تدريس الفن الأكاديمي.
نذير نبعة، لؤي كيالي، وفاتح المدرّس: مثلوا الجيل الذهبي الذي أنتج واقعية شاعرية وتجريبية ذات بعد فلسفي.
الفصل الرابع: الحداثة وما بعدها (1970 – 2010)
▪️ الفن بين الذات والهوية والتجريب
مع السبعينيات، دخل الفن السوري مرحلة أكثر تجريدًا وتنوعًا:
التأثر بالمدارس العالمية: السريالية، التكعيبية، التعبيرية، المفاهيمية.
بروز النحت والتجهيز: لم يعد الفن حبيس اللوحة فقط.
الهوية البصرية: بدأت تيارات تعيد قراءة الموروث السوري (الأساطير، الحرف، الرموز) في سياق حديث.
فنانون بارزون:
يوسف عبدلكي: برع في الأبيض والأسود والنقد الرمزي الصامت.
سعد يكن: اشتغل على المفردة الأسطورية والتراثية.
عبد الله عبود، فادي يازجي، صفوان داحول: قدموا رؤى تعبيرية ومعاصرة ذات امتداد عالمي.
الفصل الخامس: الفن في زمن الحرب والشتات (2011 – حتى اليوم)
▪️ الفن كذاكرة مقاومة
منذ اندلاع الأزمة السورية في 2011، أصبح الفن التشكيلي جزءًا من حالة الوعي السياسي والاجتماعي:
لوحات توثق الألم والفقد.
فن الشارع والجداريات كأدوات مقاومة يومية.
المنفى الفني: مئات الفنانين السوريين أنشأوا تجاربهم في أوروبا وأميركا والخليج.
السمات البارزة:
تعبير رمزي عن التشظي والشتات.
توظيف وسائط متعددة: الفيديو، التركيب، الأداء.
تزايد المشاركات في المعارض والبازارات العالمية.
الفصل السادس: الفن السوري في المشهد الدولي
الاعتراف العالمي: أعمال لفنانين سوريين مثل داحول وعبدلكي بيعت في مزادات عالمية كـ”كريستيز” و”سوثبيز”.
بينالي فينيسيا، برلين، الشارقة، دبي: منصات احتضنت الفن السوري كصوت معاصر.
متحف الفن الحديث في نيويورك ومركز بومبيدو بباريس: اقتنوا أعمالاً لفنانين سوريين ضمن معارض دائمة.
خاتمة: الفن السوري… هوية تتجدد لا تموت
الفن التشكيلي السوري ليس ظاهرة فنية فحسب، بل هو سجل بصري لذاكرة أمة، ورمز لصراع الإنسان من أجل البقاء والكرامة والجمال. من منحوتة أوغاريت إلى لوحة عبدلكي، تتجلى في الخط واللون والظلّ قصة شعبٍ لا يُكسر.
وكما قال فاتح المدرّس:
“الفن ليس مرآة… بل هو حلم، هو الذاكرة التي تعاند الفقد.”