لكل السوريين

إنقاذ الثروة الحيوانية

عبد الكريم البليخ

رغم الأصوات العالية المنادية بالاستثمار في “الاقتصاد الرقمي”، لا تزال أصوات المختصين في الحقل التنموي السوري تتشبث بجوهر استقرار البلاد: الأمن الغذائي والاجتماعي، المرتبطين جوهرياً بقطاعات تقليدية حيوية، وعلى رأسها الثروة الحيوانية التي كانت، وما زالت، واحدة من أبرز ركائز الاقتصاد الوطني السوري.

فما بين واقع مرّ فرضته سنوات الحرب، ومحاولات النهوض بعد التحرير، تلوح اليوم مبادراتٌ تتلمّس طريقها بعناية، تهدف إلى إحياء هذا القطاع المنهك، من خلال مفهوم المجمعات الإنتاجية الحيوانية.

إن إنشاء مجمعات إنتاج حيواني متكاملة يُمكن أن يشكل خريطة طريق لإنقاذ “الثروة السورية الضائعة”، على أن يبدأ الاقتراح بكليات الزراعة التي تمتلك مساحات مناسبة وخبرات متوفرة، كنواةٍ أولى يمكن أن تتحول إلى نماذج قابلة للتعميم. و في ريف دمشق يمكن أن يكون حاضنة أولى لهذا النموذج، في حال توافرت المياه والطاقة والبنية التحتية، على أن تتكامل فيه خبرات التربية والإنتاج والتصنيع الغذائي الحيواني.

ولا يمكن ان نغفل حقيقة العوائق التي تقف أمام جدية التنفيذ، وعلى رأسها التمويل ورأس المال، الذي “يبقى جباناً” ما لم يأتِ محمولاً على قلوب مؤمنة بالوطن، ومشاريع تنموية لا ربحية صرفة. فهكذا مشروعات تتطلب شراكة فعالة بين القطاعين العام والخاص، وتعاوناً بين المؤسسات العلمية والمجتمعية.

في المقابل، يقدّم أحد الخبرات في الإنتاج الحيواني، قراءة واقعية ـ وربما متحفظة ـ للفكرة، محذراً من التعاطي السطحي معها، ومشيراً إلى جملة من المعايير الفنية والبيئية التي تجعل من فكرة “المجمّعات الموحّدة” أقلّ قابلية للتطبيق، لا سيما أنّ لكل نوع حيواني بيئة تربية مختلفة. فالدواجن تحتاج إلى حظائر مغلقة، الأغنام تتبع حركة المراعي، والأبقار تحتاج إلى أراضٍ زراعية خصبة.

الحل يكمن في إقامة تجمّعات تخصصية لكل نوع حيواني تراعي الاشتراطات الصحية والبيئية، وأن مثل هذه النماذج يُمكن تنفيذها عبر شركات كبرى تمتلك القدرة على المتابعة الفنية، لكنها تبقى غير ملائمة لصغار المربين الذين يشكلون 90% من القطاع الخاص.

وبين ما يطرح تبقى الحاجة قائمة ـ بل وملحّة ـ إلى رؤية وطنية شاملة، تبدأ بوضع استراتيجية علمية تشاركية تشمل المربين، والوزارات المعنية، والجامعات، ومراكز البحوث، وتُترجم إلى واقع ملموس عبر دعم فني وتشريعي وتمويلي.

ولا يتردد المعنيين في الدعوة إلى إنشاء وزارة مختصة بالثروة الحيوانية، تعكس أهمية هذا القطاع الذي يساهم بما يزيد عن ثلث الناتج الزراعي، إذا ما أُخذ بالحسبان ما يقدمه من خدمات غير نقدية، كالسماد العضوي، والنقل، والتشغيل في الريف.

ما بين الحماسة الأكاديمية والواقعية الفنية، يظهر أن مستقبل الثروة الحيوانية السورية لن يُبنى بنموذج واحد فقط، بل بتلاقي الجهود، واحتضان التنوع، ووضع الإنسان الريفي في قلب المشروع، لا على هامشه.

- Advertisement -

- Advertisement -