دمشق/ مرجانة إسماعيل
في أزقة دمشق القديمة، يقف سبيل المرجة شامخاً كشاهد صامت على تراث مائي عريق يتلاشى يوماً بعد يوم. هذا السبيل الذي كان يوماً رمزاً للكرم الدمشقي، تحول اليوم إلى مجرد نصب تذكاري، بعد أن جفت مياهه العذبة التي كانت تروي عطش المارة منذ عام 1907. قصة هذا السبيل ليست سوى حلقة في سلسلة طويلة من التراث المائي الدمشقي المهدد بالاندثار.
وفي حي الشاغور، يجلس الحاج أبو محمود (75 عاماً) على مقعد حجري بجانب سبيل عتيق كان جده قد بناه قبل قرن من الزمان. “هذا السبيل كان أشبه بعروس الحي”، يقول الرجل العجوز وهو يمسح بيده المتجعدة حجارة السبيل المزخرفة. “كانت المياه تتدفق منه على مدار الساعة، فيشرب منه الجيران والمارة وحتى الحيوانات. اليوم أصبح مجرد ذكرى”.
بحسب سجلات مديرية الآثار، كانت دمشق تضم أكثر من 200 سبيل ماء تاريخي في بداية القرن العشرين، لم يبق منها اليوم سوى 35 سبيلاً فقط، ويعمل منها فعلياً 12 سبيلاً بشكل متقطع. هذه الأرقام المخيفة تكشف عن كارثة ثقافية تهدد أحد أهم رموز الهوية الدمشقية.
يقول المهندس وسام الحلبي، المتخصص في ترميم الآثار المائية، يشرح لنا الأسباب الكامنة وراء هذا الاندثار: “المشكلة ثلاثية الأبعاد: شح المياه، ارتفاع التكاليف، والإهمال المؤسسي. فاتورة المياه لبعض هذه السبل تصل إلى مليون ليرة شهرياً، وهو مبلغ لا يستطيع المتبرعون تحمله في ظل الأزمة الاقتصادية”.
وفي حي الميدان، تحاول السيدة أمينة (52 عاماً) الحفاظ على سبيل عائلتها الذي يعود للعصر العثماني. “ندفع من جيبنا الخاص لترميمه وتأمين المياه”، تقول بينما تملأ كوباً من الماء لطفل مار. “لكن التكاليف أصبحت فوق طاقتنا. قبل شهر، تلقينا إنذاراً بقطع المياه بسبب تأخرنا عن دفع الفواتير”.
ولا تقتصر المشكلة على السبل التاريخية فحسب. فحتى السبل الحديثة التي انتشرت في الأحياء الدمشقية خلال العقود الماضية تعاني من الإهمال. في شارع الثورة، يقف سبيل “أبو زيد” مغلقاً منذ عامين. يقول صاحبه: “كان والدي يتبرع بالماء عن روح جدنا، لكن بعد ارتفاع الأسعار، اضطررنا لإغلاقه. الفاتورة الشهرية كانت تكلفنا راتب موظف”.
ويؤكد الباحث التراثي الدكتور نزار السمان أن ظاهرة السبل في دمشق تعود إلى العصر الأيوبي، حيث كانت تشكل جزءاً من النظام المائي المعقد الذي ابتكره الدمشقيون. “دمشق كانت رائدة في هندسة المياه”، يقول السمان. “هناك شبكة معقدة من القنوات تحت الأرض تصل المياه إلى كل حي. السبل كانت جزءاً من هذا النظام الذكي”.
أما في حي القنوات، حيث تنتشر بقايا النظام المائي القديم، يحاول بعض الشباب إحياء التراث المائي بطريقتهم الخاصة. محمد (28 عاماً) وفريق من المتطوعين قاموا بترميم سبيلين مهجورين. “نحن نستخدم نظاماً لتجميع مياه الأمطار”، يشرح الشاب بحماس. “بهذه الطريقة نوفر الماء دون تحميل الشبكة العامة أعباء إضافية”.
لكن هذه المبادرات الفردية تبقى غير كافية في مواجهة الأزمة الكبيرة. فبحسب بيانات مؤسسة مياه دمشق، فإن 60% من السبل المرخصة قد أغلقت خلال السنوات الخمس الماضية، بسبب عدم قدرة المتبرعين على تحمل التكاليف أو بسبب شح المياه في الشبكة العامة.
إذ أن المشكلة تتفاقم مع تغير المناخ. فبحسب دراسة حديثة لجامعة دمشق، انخفضت كمية المياه المتدفقة من نبع الفيجة – المصدر الرئيسي لمياه الشرب في العاصمة – بنسبة 40% خلال العقد الماضي. هذا الانخفاض الحاد أجبر المؤسسة على تقنين المياه، مما أثر مباشرة على السبل العامة.
وفي حي الصالحية، حيث تنتشر السبل المملوكية العتيقة، يقف سبيل “الخانقاه” شاهداً على ازدهار ماضي وواقع مرير حاضر. الدكتورة لمى الشهابي، أستاذة التاريخ الإسلامي، تقول: “هذا السبيل كان تحفة معمارية بزخارفها ونقوشها. اليوم، تحول إلى مكان لتجميع القمامة لأن مياهه جفت”.
فالأزمة لا تقتصر على الجانب التراثي فحسب، بل لها أبعاد اجتماعية عميقة. فالسبل كانت تمثل نموذجاً للتكافل الاجتماعي الدمشقي الفريد. الحاج أبو عدنان (80 عاماً) يتذكر: “كان الأغنياء يتنافسون على بناء السبل، والفقراء يشربون من مائها دون حرج. كانت دمشق تعرف كيف تحافظ على كرامة الجميع”.
واليوم، تحاول بعض العائلات الغنية الحفاظ على هذه التقاليد بطرق حديثة. في حي المالكي، نجد سبيلاً إلكترونياً يعمل بالبطاقات الذكية. صاحبه، رجل الأعمال معن الديري، يوضح: “هذا حل وسط. نحافظ على التقليد لكن بطريقة مستدامة. السبيل يعمل بالطاقة الشمسية ويوزع المياه المعقمة”.
في المقابل، يرى بعض الخبراء أن هذه الحلول تفقد السبل روحها التقليدية. الدكتور عمار القادري، عالم الأنثروبولوجيا، يحذر: “السبل لم تكن مجرد نوافير ماء، بل كانت فناً ومعماراً وعلاقات اجتماعية. تحويلها إلى آلات بيع مياه يقتل روحها الإنسانية”.
وتبدو المؤسسات الرسمية عاجزة عن مواجهة هذه الأزمة. مدير مشروع حماية التراث المائي في وزارة الثقافة يعترف: “لدينا خطة لترميم 15 سبيلاً تاريخياً، لكن التمويل غير متوفر. نحتاج إلى مليون دولار على الأقل لإنقاذ هذا التراث”.
يبقى مصير السبل الدمشقية معلقاً بين الأزمة الاقتصادية والتغير المناخي. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل سنسمح لهذا التراث الإنساني الفريد بالاندثار، أم أن الدمشقيين سيجدون طريقة لإحياء “صدقة الماء” التي ميزتهم عن سائر المدن؟