في قلب الأسواق القديمة المزدحمة بالعطر الشرقي والتاريخ العريق، لا تزال صناعة الخشب والعاج التراثية في سوريا تُقاوم عوامل الزمن والحرب والتكنولوجيا، متمسكة بأصالتها كواحدة من أقدم وأهم الحِرَف التي ميزت الحضارة السورية منذ آلاف السنين.
تعود صناعة الخشب والعاج في سوريا إلى العصور الكنعانية والآرامية، وازدهرت بشكل كبير في الممالك القديمة مثل إيبلا وأوغاريت وتدمر، حيث عُثر على قطع أثاث مزخرفة بالعاج في القصور الملكية، تُظهر مهارة فنية استثنائية.
وقد استفاد السوريون القدماء من وجود خشب الأرز في جبال الساحل والعاج المستورد من أفريقيا والهند، ليبدعوا قطعًا فنية تُصدّر إلى مصر وبلاد الرافدين.
حرفة تقليدية بدقة استثنائية
يعمل الحرفيون السوريون في هذه المهنة بأسلوب يدوي دقيق، يجمع بين الحفر والنقش والتطعيم باستخدام الخشب والعاج والصدف. تنتج هذه التقنية أثاثًا فاخرًا، صناديق حُليّ، وقطعًا فنية تُزيّن المساجد والكنائس والمنازل.
يقول أبو سليم النحات الدمشقي (72 عامًا)، أحد أقدم صناع الخشب في سوق البزورية:
“كل قطعة نعملها تحكي قصة… لا نكرر التصاميم، فكل واحدة فريدة كصاحبها.”
أبرز مراكز هذه الصناعة هي: دمشق القديمة خصوصًا سوق المدحتية وباب شرقي.
حلب: التي كانت تُصدر أثاث العاج إلى أوروبا منذ القرن التاسع عشر.
حماة وصافيتا: اشتهرتا بورش نحت الخشب على الطراز البيزنطي والإسلامي.
وتُعتبر هذه الحرفة جزءًا من الهوية الثقافية السورية، وغالبًا ما تُورّث من جيل إلى آخر داخل العائلات.
تهديدات وتحديات
رغم غناها الفني، تواجه هذه الصناعة تحديات كبيرة:
شح المواد الخام: بسبب قطع الأشجار وندرة العاج (ومنع تداوله عالميًا).
الحرب السورية: دمرت ورشًا، وهجّرت الحرفيين.
التقنيات الحديثة: التي تهدد الحرفة اليدوية بحلول الإنتاج الآلي.
قلة الدعم الرسمي: وغياب حماية الحرفيين التراثيين.
يقول الحرفي نبيل الجلاد من حلب:
“أخشى أن أكون آخر من يمسك بالإزميل في عائلتي… أولادي لا يريدون هذه المهنة، رغم جمالها.”
رغم التحديات، ظهرت في السنوات الأخيرة مبادرات أهلية وشبابية للحفاظ على هذه الحرفة:
ورش تعليمية في دمشق وحلب لتدريب الجيل الجديد.
معارض تراثية دولية، حيث تُعرض أعمال سورية في باريس ودبي.
المنظمات الدولية، مثل اليونسكو، التي صنّفت بعض الحرف السورية كتراث غير مادي بحاجة للصون.
تمثل صناعة الخشب والعاج في سوريا أكثر من مجرد حرفة؛ إنها ذاكرة حضارية متجذرة في الفن والتاريخ والروح الشرقية. وبجهود المبدعين والغيورين على التراث، قد تعود هذه الصناعة لتزدهر من جديد، وتعيد لسوريا بريقها كأحد أعظم مراكز الحِرَف التقليدية في العالم.