صباح خليل
العصرانية حركة فكرية وفنية واجتماعية واسعة النطاق، نشأت في أوائل القرن العشرين واستمرت حتى منتصفه تقريبًا، وشكلت ثورة شاملة في نمط التفكير، تجاوزت كونها أسلوبًا فنيًا لتشمل مجالات متعددة مثل الفنون، العمارة، الأدب، الموسيقى، الفلسفة، والعلوم الاجتماعية. تميزت هذه الحركة بمحاولتها لكسر القوالب التقليدية والبحث المستمر عن أشكال جديدة تعبر عن واقع متغير ومتسارع، في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي شهدها العالم آنذاك.
لم تكن العصرانية حركة متجانسة، بل احتوت على تيارات متعددة تختلف في الأساليب والأهداف لكنها تشترك في روح التجديد والتجريب. في الفنون البصرية، برزت حركات ثورية مثل التكعيبية التي ركزت على تفكيك الأشكال الهندسية وإعادة تركيبها بطرق مبتكرة، ممثلة في أعمال بابلو بيكاسو وجورج براك. كما ظهر التجريد الذي ابتعد عن تمثيل الواقع المباشر وركز على الألوان والأشكال المجردة، كما في أعمال واسيلي كاندينسكي وكازيمير ماليفيتش. واستكشفت السريالية عالم اللاوعي والأحلام مستخدمة تقنيات مثل التجميع الآلي والتشويه، ممثلة بأعمال سلفادور دالي ورينيه ماغريت. إلى جانب التعبيرية التي عبرت عن المشاعر الداخلية والعواطف بألوان قوية وخطوط حادة، كما في أعمال إدوارد مونش وإرنست لودفيج كيرشنر، وحركة الدادائية الثورية الساخرة التي عارضت القيم التقليدية واعتمدت على الفوضى والصدفة كوسائل فنية.
في الأدب، شهدت العصرانية ظهور أساليب مبتكرة مثل تيار الوعي الذي يركز على تدفق الأفكار والمشاعر الداخلية للشخصية، كما في أعمال جيمس جويس وفيرجينيا وولف، والرواية الحديثة التي تخلت عن الأساليب التقليدية واعتمدت على تعدد الرواة والزمن غير الخطي، إضافة إلى الشعر الحر الذي تحرر من قيود القافية والوزن التقليدي معتمداً على الإيقاع الداخلي والصور الشعرية الحية. أما في الموسيقى، فجاءت العصرانية بتجديدات شملت الموسيقى التوافقية التي تخلت عن التوافقيات التقليدية مستخدمة نغمات غير متناغمة أحياناً والموسيقى الإثني عشر نغمة التي استعملت جميع النغمات بالتساوي في التكوين الموسيقي، بالإضافة إلى الجاز الذي أثر بشكل كبير على الموسيقى المعاصرة بإيقاعاته الحيوية وأسلوبه المبتكر. وعلى صعيد العمارة، ظهرت تصاميم جديدة اتسمت بالبساطة والوظيفية، مع اعتماد مواد صناعية حديثة وأشكال هندسية نظيفة وبسيطة، ما انعكس في مبانٍ تجمع بين الجمال العملي والتقنيات الحديثة.
امتد تأثير العصرانية ليشمل العديد من جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية، حيث لعبت دوراً حيوياً في تغيير القيم التقليدية وفتحت المجال لأنماط حياة جديدة أكثر حرية وتجريباً. كما ساهمت التطورات التكنولوجية في إثراء الحركات العصرانية بظهور أدوات وأساليب فنية حديثة، في حين شكلت الحروب العالمية خلفية مؤثرة على التعبيرات الفنية التي عكست مشاعر القلق واليأس. إضافة إلى ذلك، أظهرت العصرانية التناقضات الثقافية بين المستعمر والمستعمر عليه، وانعكست هذه الصراعات في أعمال فنية وأدبية نقدية وتحليلية.
في سياق سوريا، تلعب مفاهيم العصرانية والديمقراطية دوراً محورياً في مرحلة ما بعد الحرب، إذ تمثل العصرانية روح التجديد والابتكار التي تساعد على تجاوز الانقسامات والتحديات الاجتماعية والسياسية، بينما توفر الديمقراطية الإطار القانوني والمؤسساتي الضروري لتحقيق الاستقرار والتنمية. فالأمن والاستقرار السياسي يتطلبان إرساء إطار قانوني ودستوري قوي يضمن الحقوق والحريات ويعزز الشفافية وتكافؤ الفرص، إضافة إلى إصلاح القطاع الأمني عبر تطوير قوى أمن مهنية تحترم حقوق الإنسان لتعزيز ثقة المواطنين وتقليل الاحتقان. كما تستدعي مكافحة الإرهاب تجديد سياسات متكاملة تشمل التعاون مع المجتمع المحلي، إلى جانب إشراك المواطنين في صنع القرار عبر انتخابات حرة واستشارات وطنية لتعزيز الشرعية والمصالحة، مع دعم الحوار الوطني بين مختلف الأطراف من خلال منصات تشجع التشاور والتعاون البناء.
أما على الصعيد الاقتصادي، فدور الديمقراطية يتجلى في تحفيز الاستثمارات المحلية والأجنبية وتبسيط الإجراءات لتهيئة بيئة عمل جاذبة، بالإضافة إلى تطوير البنية التحتية وتنفيذ مشاريع تعزز النشاط الاقتصادي وتوفر فرص عمل تحد من الفقر والتوترات الاجتماعية. كذلك يبرز تحسين التعليم والتدريب المهني بما يتناسب مع حاجات السوق، مع تقديم دعم للفئات الضعيفة، وتعزيز الشفافية والمساواة في المؤسسات الحكومية لمكافحة الفساد وبناء ثقة المواطنين. كما تمثل الاستفادة من الخبرات الدولية والتعاون مع المؤسسات العالمية عاملاً هامًا في بناء مؤسسات ديمقراطية قوية تعزز الأمن والتنمية، إلى جانب تشجيع التبادل التجاري والثقافي لتعزيز العلاقات بين سوريا والدول الأخرى، مما يسهم بشكل إيجابي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
كانت العصرانية حركة متعددة الأوجه ركزت على التغيير والابتكار في كل مجالات الحياة، وتركت بصمة عميقة لا تزال حاضرة في الفنون والثقافة والحياة الاجتماعية المعاصرة. وفي سوريا، يمثل تطبيق قيم العصرانية والديمقراطية في مرحلة ما بعد الحرب فرصة حقيقية لإعادة بناء المجتمع على أسس المشاركة والعدالة والتنمية المستدامة. إذ إن التزام جميع الأطراف بخلق بيئة مواتية للسلام والاستقرار، وبناء مؤسسات قوية وديمقراطية، هو السبيل الأمثل لضمان مستقبل أفضل لسوريا وشعبها يعكس التنوع والتعايش المشترك ويحقق الانتعاش الاقتصادي والسياسي المنشود.