حلب/ خالد الحسين
في قلب مدينة حلب، حيث تتعانق رائحة التاريخ مع عبق الأعشاب المجففة، تقف مهنة العطارة شاهدة على عراقة مجتمع حافظ على تقاليده رغم كل ما مرّ به من تغيرات. بين أزقة الأحياء القديمة، وفي زوايا الأسواق التي لا تزال تنبض بالحياة رغم آثار الحرب والركود الاقتصادي، يواصل العطار الحلبي أداء دوره، ليس فقط كبائع أعشاب، بل كأمين على إرث طبي شعبي توارثته الأجيال، وحافظت عليه من الآباء إلى الأحفاد.
مهنة لها جذور في الذاكرة الحلبية
منذ مئات السنين، شكلت دكاكين العطارة جزءاً أساسياً من نسيج المدينة، وكانت مقصدًا يوميًا للباحثين عن العلاج، سواء من عامة الناس أو حتى من بعض الأطباء التقليديين. العطارة في حلب لم تكن مهنة عابرة أو طارئة، بل علماً متكاملاً يعتمد على تراكم الخبرة، والمعرفة الدقيقة بخواص الأعشاب، أوقات جمعها، طرق حفظها، وتفاعلاتها، وهي معرفة كثيراً ما تُكتسب بالممارسة والمراقبة والتجريب، أكثر مما تُدرّس نظريًا.
اليوم، ورغم تطور الطب الحديث وانتشار الأدوية الكيميائية، لا تزال العطارة تحتفظ بجمهور واسع، لا سيما في ظل التوجه المتزايد نحو الطب البديل والعلاجات الطبيعية، والتوجس من الآثار الجانبية لبعض الأدوية الصناعية.
أبو حميد.. العطارة ليست تجارة بل علم وميراث
في حي الجميلية، أحد أبرز أحياء حلب وأكثرها تنوعًا، التقينا بالعطار “أبو حميد”، رجل خمسيني ووريث لخط طويل من العطارين، يمتلك محلاً صغيرًا تفوح منه روائح الميرمية واليانسون والبابونج، ويزدان برفوف خشبية تحمل عشرات الأصناف من الزيوت والأعشاب المجففة.
يقول أبو حميد وهو منهمك في تجهيز خلطة لأحد الزبائن: “ولدت بين هذه الأعشاب. كنت أراقب والدي وجدي وهما يعملان في المحل، يوزنان، يخلطون، ويستمعون للناس. المهنة ليست بيع وشراء فقط، بل تحتاج فهماً دقيقًا. لكل عشبة توقيتها وطبيعتها و”حرارتها”، وبعضها يتفاعل مع الآخر إن خُلط بشكل خاطئ. العطار الجيد يعرف كيف يصنع التوازن.”
ويضيف بابتسامة فيها شيء من الفخر: “الناس اليوم تعود للطبيعة أكثر. الشباب يزورونني للسؤال عن وصفات للقلق، للأرق، للمناعة، وحتى لمشاكل البشرة. وهذا يعطينا دافعاً للاستمرار، رغم الصعوبات.”
رحلة العشبة لا تبدأ من رف العطار، بل من الطبيعة ذاتها. في حديثنا مع “أبو خالد”، أحد جامعي الأعشاب في ريف حلب الغربي، اتضح أن المهنة تبدأ في الوديان والجبال، حيث تُقطف النباتات بدقة متناهية، ووفق توقيت مدروس.
يقول أبو خالد: “كل عشبة لها موسم. الزعتر، المليسة، الزوفا، الجعدة، وغيرها. نخرج في مجموعات صغيرة إلى أماكن معروفة، وننتقي الأعشاب واحدة واحدة. لا نقتلع الجذور، بل نترك للنبات فرصة للنمو من جديد. بعد القطف نترك الأعشاب لتجف بطريقة طبيعية، ثم نرسلها للعطارين في المدينة. الجودة تبدأ من هنا.”
ويؤكد أبو خالد أن الأعشاب النادرة، مثل العرعر أو الشيح الجبلي، تُطلب كثيرًا من العطارين المخضرمين، لكنها تحتاج خبرة كبيرة في جمعها، كما أن أسعارها مرتفعة وتُستخدم غالبًا في وصفات دقيقة لمشاكل مزمنة.
زبائن يبحثون عن التوازن بين الطبيعة والدواء
الصورة النمطية عن زبون العطار كمسنّ يعاني من الأمراض القديمة لم تعد دقيقة. فاليوم، تتنوع شرائح الزبائن، من طلاب الجامعات إلى ربات البيوت، ومن الرياضيين إلى مرضى الأمراض المزمنة.
التقينا “سامي”، موظف في الأربعين من عمره، جاء لشراء خلطة خاصة بالقولون العصبي. يقول سامي: “جربت كثير من الأدوية، لكن الأعشاب الطبيعية أعطتني راحة ما كنت أجدها مع الأدوية. الشمر، النعناع، الكراويا، واليانسون – كلها تهدئ المعدة وتحسن المزاج. لكني لا أستخدم شيئاً قبل استشارة العطار، لأن المزج بين الأعشاب يحتاج دقة، وبعضها قد يضر أكثر مما ينفع إن أُسيء استخدامه.”
ورغم كل ما تواجهه من تحديات – من ارتفاع أسعار الأعشاب، وصعوبة تأمين بعض الأصناف، إلى تراجع قدرة الناس الشرائية – لا تزال مهنة العطارة صامدة. في أسواق المدينة القديمة، مثل سوق الزهراوي وسوق العطارين، ما زالت المحال قائمة، وروادها كُثر.
يؤكد أبو حميد في نهاية حديثه: “ما دام هناك من يؤمن بالطبيعة، ومن يحترم هذه المهنة ويعمل فيها بإخلاص، فلن تنقرض. صحيح أن الأوضاع صعبة، لكننا نزرع الأمل مع كل خلطة، ومع كل زبون يجد راحته بين الأعشاب.”
هكذا تستمر مهنة العطارين في حلب، لا بوصفها بقايا من الماضي، بل جزءًا حيًا من الحاضر، يحمل في طياته خلاصة تجارب الأجداد، وروح مدينة تعتز بتراثها وتقاوم النسيان. فالعطار الحلبي ليس مجرد بائع، بل حافظ لعلم شعبي، وسفير للتوازن بين الطبيعة والإنسان، في زمن تتسارع فيه الخطى نحو كل ما هو صناعي.