في سوريا، لم يعد امتلاك سقفٍ يأوي الإنسان وأسرته ضرباً من الترف أو طموحاً مؤجلاً، بل صار حلماً ثقيل الكلفة، يختلط فيه الأمل بالخذلان، وتتقاطع فيه الحاجة مع عجز الواقع. هو الحلم الأبسط، والأكثر إنسانية، الذي اصطدم بجدران مشهد اقتصادي متهالك، وبُنى تحتية متآكلة، وجمعيات سكنية تسعى جاهدة إلى التقاط أنفاسها بين أنقاض الوعود المتراكمة.
فما عادت أزمة السكن موضوعاً للاجتماعات التنموية أو البنود الإدارية، بل تحوّلت إلى معضلة يومية تُثقل كاهل المواطن، خصوصاً أولئك العائدين من التهجير، ليجدوا بيوتهم إما خاوية على عروشها أو مؤجرة بأسعار تتجاوز المنطق، حيث بلغ إيجار الشقة الواحدة في بعض المناطق ما يفوق 400 دولار، ما دفع بالكثيرين إلى الإقامة المؤقتة داخل جدران نصف مكتملة، في محاولة لتفادي نزف الإيجارات.
وفي خضم هذا العسر، بدأت بعض الجمعيات السكنية تحاول إعادة بعث الحياة في مشاريعها المجمّدة منذ سنوات. منها ما وصل إلى مراحل متقدمة من التنفيذ، ومنها ما لا يزال على الهيكل، تكبّله صعوبات جمّة: غياب المنتسبين في المنافي، أو عجز الحاضرين عن الإيفاء بالالتزامات المالية.
بعض هذه الجمعيات نجحت رغم العقبات، وسلّمت مفاتيح البيوت إلى أصحابها، وتتهيأ لإطلاق مشاريع جديدة وسط عواصف التمويل وأسعار الأراضي المتصاعدة. ولعل اقتراح تخصيص أراضٍ من أملاك الدولة شكّل بارقة أمل في مواجهة وحش الغلاء، ودعماً لهذا الشكل التعاوني من الإسكان.
وثمّة جمعيات أخرى عانت من استنزاف مادي ومعنوي، بعد أن تحوّلت مواقعها سابقاً إلى ساحات عسكرية، ليُستأنف العمل فيها لاحقاً، بإصرار لا يخلو من ألم. وتبقى نقطة الجذب في أن هذه الجمعيات تقدم السكن بتكلفة تقل كثيراً عن السوق، ما يجعلها الملاذ الوحيد لأصحاب الدخل المحدود.
لكن العقبات تتناسل. فالقرار الحكومي رقم 11203 لعام 2023، القاضي بعدم تنفيذ أي رخصة بناء إلا عبر مقاول مرخّص، أفقد الجمعيات أداة تنفيذها الرئيسية: “الأمانة”، وأضاف عبئاً مالياً جديداً على كاهل المنتسبين، الذين بالكاد يملكون قوت يومهم.
ورغم كل ذلك، تتوالى الاجتماعات في مديريات التعاون السكني، في محاولة لإعادة إنعاش الروح في الجمعيات المنهكة. وشهدت تلك اللقاءات حضوراً لافتاً من منتسبين أثقلتهم الإيجارات، وسكنهم القلق من التشرد المُقنّع.
لكن التحديات لا تزال تمضي عكس التيار. فمشاريع سكنية كثيرة في المدن المتضررة تهاوت أو تجمّدت، والأعضاء المهجّرون خارج البلاد ما زالوا غائبين عن المشهد، فيما تظل أسعار البناء العالية حاجزاً لا يمكن تجاوزه بالنسبة لمعظم المنتسبين، ممن لا يملكون سوى الرغبة والصبر.
في مواجهة هذا التهالك، تقترح الجمعيات إنشاء صندوق إسكاني خاص لدعم المشاريع المتعثرة، وتطالب بتفعيل القانون 37 لعام 2019، الذي يتيح استخدام أموال الجمعيات المنحلة، وتخصيص محاضر شاغرة للجمعيات القادرة على إحياء الأمل.
إنها دعوة تنبع من حاجة حقيقية، من أناس يبحثون عن استقرار نفسي واجتماعي افتقدوه لسنوات. فالسكن ليس مجرد بناء من طوب وإسمنت، بل هو احتياج وجودي، وجذر في أرض الحياة. وهو، في هذه البلاد، لا يزال ينتظر إرادة صادقة ترفعه من ركام الحرب، وتمنحه اسماً على باب، لا وهماً في مخيلة.
فهل يتحوّل هذا الحلم إلى حقيقة، أم يبقى مجرد حطام آخر يُضاف إلى ذاكرة السوريين المثقلة؟