لكل السوريين

“التعليلة”… وسيلة اجتماعية لمواجهة الغزو الثقافي وإحياء العادات المجتمعية الأصيلة

الرقة/ حسن الشيخ

تشكل “التعليلة” أو الجلسات المسائية إحدى أبرز مظاهر الترابط الاجتماعي في مناطق شمال وشرق سوريا، إذ تعتبر وسيلة مجتمعية متجذرة في تقاليد السكان، ساهمت عبر عقود طويلة في تعزيز الروابط الأسرية والاجتماعية، إلى جانب دورها في نقل الخبرات والقيم والعادات الأصيلة بين الأجيال.

وتعتمد التركيبة المجتمعية في المنطقة، بحكم بنيتها العشائرية والأسريَّة المتماسكة، على العديد من العادات الاجتماعية التي تحافظ على التماسك الاجتماعي، ومن أبرزها “التعاليل” التي تطورت بشكل ملحوظ، وأصبحت ركناً يومياً في حياة الكثير من الأهالي، خاصة في الأرياف والبلدات التي ما زالت متمسكة بعاداتها المتوارثة.

إلا أن غزو الهواتف الذكية وانتشار التكنولوجيا بشكل كبير بات يهدد هذه العادة الاجتماعية المتميزة، حيث قلَّ التواصل المباشر، وبدأت المجالس تتحول إلى جلسات صامتة يغرق فيها كل شخص بهاتفه الخاص، متجاهلاً الحوار والتبادل القصصي الذي لطالما ميّز هذه اللقاءات.

وباتت نسبة كبيرة من فئة الشباب تميل إلى العزلة الرقمية حتى وإن كانوا يجلسون مع بعضهم البعض في مجلس واحد، إذ يُلاحظ أن طموحاتهم أصبحت لا تتجاوز امتلاك أحدث الهواتف وتحميل التطبيقات الجديدة، ما يجعل “تعليلتهم” مفروضة من العالم الافتراضي وليس من واقعهم الاجتماعي، سواء كانت تلك التعليلة ترفيهية ضارة أو مفيدة.

وتُعرف “التعليلة” بأنها تجمع عفوي مسائي، غالباً ما يبدأ بعد صلاة المغرب أو في المساء، حيث يلتقي الأصدقاء والأقارب من مختلف الأعمار في مجلس مشترك، تُدار دفته عادة من قبل كبار السن الذين يتناقلون القصص والحكايات المستقاة من تجاربهم الحياتية، وتكون حافلة بالعبر والمواعظ والأمثال.

وفي هذا السياق، يقول الشاب إبراهيم العلي: “أحاول قدر الإمكان اختيار المجلس الذي يتواجد فيه كبار السن في التعاليل المسائية لما لهم من خبرة حياتية كبيرة، أنصت بشغف لما يطرحونه، وأستمتع كثيراً بالقصص التي تذكرنا بالأصالة والشيم الأصيلة لمجتمعنا”.

وأضاف: “الشيء المؤسف في وقتنا الحاضر هو غزو الهواتف الذكية لعقول شبابنا بكل ما تحمله من سلبيات على حساب فقدان هذه الجلسات المجتمعية التي تعزز من أصالة مجتمعاتنا، وتنشر القيم الأصيلة والهوية الحقيقية لشعوبنا، بعيداً عن النتائج المدمرة للهواتف والغزو الفكري والثقافي، وإسقاطاتهما على أرض الواقع”.

وشدد إبراهيم على ضرورة إحياء جلسات التعاليل وتنظيم تجمعات تنشر الفضيلة والأخلاق وتعزز كل الخصال النبيلة في المجتمع، داعياً إلى احترام المجالس والجلوس مع كبار السن، ضمن حملات توعوية منظمة تهدف إلى نشر الوعي بأهمية هذه العادة الاجتماعية.

وتُعد من أجمل صور “الجلسات المسائية” تعليلة ما قبل العرس، والتي تتميز بعقدها يومياً في الأيام التي تسبق الزفاف، حيث تُخصص لمسامرة “العريس” وتهنئته بحضور الأهل والجيران والأصدقاء، وخاصة في المناطق الريفية التي ما زالت تحافظ على هذه العادة بقوة وانتظام.

ولا يُعد الاجتماع خلال النهار بمثابة “تعليلة”، بل يُطلق عليه مصطلح “الهرجة”، ورغم اختلاف التوقيت، إلا أن التعليلتين تشتركان في كونها وسيلة لتبادل الأحاديث والتجارب والتواصل المباشر، وتُعتبر كلتاهما من أبرز أدوات حل المشاكل الاجتماعية وتفريغ الضغوط النفسية اليومية.

وفي ظل الغزو الثقافي المتسارع الذي تمثله الهواتف الذكية، تبرز “التعاليل” كأداة مقاومة مجتمعية لا بد من التمسك بها، كما يرى كبار السن الذين نشأوا على الفطرة والسجية، واعتادوا احترام المجالس والتفاعل معها.

وتشكل “التعليلة” خلاصة يوم شاق من العمل، وتُعد فرصة ثمينة لتذكر تاريخ الآباء والأجداد، وطرح نقاشات معمقة قد تطول وتتناول قضايا سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وتُظهر مواقف الأفراد ووجهات نظرهم بوضوح.

ومن إيجابيات “التعليلة” أنها تُزيح هماً وتشارك وجعاً، وتعالج كثيراً من المشاكل الاجتماعية بوجود العقلاء وأصحاب الحكمة، بطريقة سلسة وسحرية. فلا يغادر أحد المجلس إلا وقد نال نصيبه من الفائدة أو الضحكة، ما يجعلها وسيلة علاج نفسي فعالة.

وقد أثبتت دراسات علمية في دول متقدمة أهمية التواصل المباشر بين أفراد المجتمع، وضرورة الحفاظ على منظومات تواصل واقعية مستمرة، في مقابل التحذير من مخاطر العزلة الرقمية والتواصل غير المباشر الذي تفرضه وسائل التكنولوجيا الحديثة.

وفي النهاية، تبقى “التعليلة” إرثاً مجتمعياً ثميناً، يواجه تحديات العصر الرقمي، لكنها ما تزال تملك القدرة على البقاء، إن توفرت الإرادة المجتمعية لإحيائها، وحمايتها من الانقراض.

- Advertisement -

- Advertisement -