لكل السوريين

دون تدخل حكومي.. الألغام ومخلفات الحرب خطر يتربص بالأهالي في حمص

تقرير/ بسام الحمد

لا يزال الأهالي في ريف حمص، حيث خيمت سنوات الحرب بظلالها القاسية، يعيشون تحت وطأة تهديد خفي لكنه قاتل، يتمثل في الألغام والمتفجرات غير المنفجرة التي تتناثر في حقولهم وطرقاتهم وحتى بين أنقاض منازلهم. هذه المخلفات الحربية، التي خلفتها المعارك الضارية بين قوات النظام والمعارضة، تحولت إلى كابوس يومي للسكان الذين يحاولون إعادة بناء حياتهم بعد سنوات من النزوح والمعاناة. فبينما انتهت المعارك في العديد من المناطق، إلا أن خطر الموت لا يزال كامناً تحت الأرض، يتربص بالمدنيين العزل الذين لا حول لهم ولا قوة.

وتتنوع مصادر هذه الألغام بين تلك التي زرعتها قوات النظام خلال سيطرتها على المنطقة، والمتفجرات التي خلفتها الغارات الجوية والمدفعية، بالإضافة إلى العبوات الناسفة التي وضعتها الجماعات المسلحة. المشكلة تكمن في عدم وجود خرائط دقيقة توضح أماكن هذه الألغام، مما يجعل عملية كشفها وإزالتها مهمة شبه مستحيلة في ظل غياب الدعم الفني واللوجستي الكافي. الأهالي، وخاصة المزارعين الذين يعتمدون على أراضيهم لكسب قوت يومهم، يضطرون للمخاطرة بحياتهم كل يوم عند حراثة حقولهم أو جلب الماء من الآبار، حيث تحولت أراضيهم الخصبة إلى ساحات محتملة للموت.

وأصبحت قصص الموت والإعاقة بسبب الألغام جزءاً من الحياة اليومية لأهالي ريف حمص. فكل عائلة تقريباً لديها قصة عن قريب أو جار أصيب أو قتل بسبب انفجار لغم. بعض الضحايا كانوا أطفالاً يلعبون في الأراضي الفارغة، وآخرون نساءً ذهبن لجمع الحطب أو الأعشاب، ورجالاً حاولوا استصلاح أراضيهم المهجورة. هذه الحوادث لا تسبب فقط خسائر بشرية فادحة، بل تترك أيضاً آثاراً نفسية عميقة على الناجين وعائلاتهم، الذين يعيشون في خوف دائم من أن تكون الخطوة التالية هي الأخيرة.

يزيد غياب الوعي المجتمعي حول كيفية التعامل مع المناطق الملوثة بالألغام الطين بلة. فالكثير من الأهالي، وخاصة كبار السن والأطفال، لا يدركون شكل الألغام أو المتفجرات غير المنفجرة، ولا يعرفون كيف يتصرفون إذا شاهدوا شيئاً مريباً. بعضهم يحاولون التعامل مع هذه المواد الخطرة بأيديهم، إما بدافع الجهل أو بسبب الحاجة الماسة إلى إزالتها من أراضيهم، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى كوارث يمكن تفاديها. الجهود التوعوية التي تقوم بها بعض المنظمات المحلية تبقى محدودة ولا تغطي جميع المناطق، ناهيك عن أن الكثير من السكان لا يثقون بهذه المنظمات بسبب ارتباط بعضها بأجندات خارجية.

ويجبر الوضع الاقتصادي المتردي في ريف حمص الكثيرين على المخاطرة بحياتهم. فالمزارعون الذين فقدوا مصادر رزقهم خلال الحرب لا يملكون خياراً سوى العودة إلى أراضيهم المليئة بالمخاطر، لأن البديل هو الجوع. العائلات النازحة التي عادت إلى منازلها المدمرة تجد نفسها مضطرة للبحث بين الأنقاض عن أي ممتلكات يمكن إنقاذها، معرضة نفسها لخطر الانفجارات. حتى الأطفال أصبحوا ضحايا لهذا الواقع المرير، حيث يضطر بعضهم للعمل في جمع الخردة المعدنية من المناطق الخطرة لبيعها وتأمين لقمة العيش لعائلاتهم.

الاستجابة الرسمية لهذه الأزمة تبقى غير كافية بل ومتلكئة في كثير من الأحيان. فالحكومة السورية، رغم سيطرتها، لم تخصص الموارد الكافية لعمليات نزع الألغام، ولا توجد خطط واضحة لتنظيف المناطق الملوثة. بعض الجهود التي تبذلها فرق محلية أو دولية تواجه عراقيل بيروقراطية وأمنية، حيث تشترط السلطات الحصول على موافقات أمنية معقدة تبطئ العملية وتحد من فعاليتها.

فالتداعيات الاجتماعية لهذه الأزمة لا تقل خطورة عن التداعيات الإنسانية. وهناك الكثير من العائلات التي فقدت معيلها بسبب الألغام أصبحت تعيش في فقر مدقع، دون أي دعم حكومي أو اجتماعي يذكر. الإعاقات الجسدية الناتجة عن الانفجارات تزيد العبء على نظام صحي منهك أصلاً، حيث تفتقر المستشفيات في المنطقة إلى المعدات والأدوية اللازمة لعلاج مثل هذه الإصابات المعقدة. الناجون من حوادث الألغام يعانون ليس فقط من آلام جسدية، بل أيضاً من وصمة اجتماعية وصعوبات في الزواج أو إيجاد فرص عمل، خاصة في مجتمع محافظ يعتبر الإعاقة عيباً أحياناً.

وستستمر المخاوف من الألغام في ريف حمص لسنوات طويلة قادمة. فحتى في أفضل السيناريوهات، وإذا بدأت عمليات نزع الألغام اليوم، فإن تنظيف المنطقة بالكامل قد يستغرق عقوداً. هذا يعني أن جيلاً كاملاً من الأطفال سيكبرون وهم يعيشون تحت هذا التهديد الدائم، مما سيؤثر على صحتهم النفسية ونموهم الاجتماعي. الأراضي الزراعية التي كانت مصدر رزق للكثيرين قد تتحول إلى مناطق محرمة لسنوات، مما يفاقم الأزمة الاقتصادية في منطقة تعتمد أساساً على الزراعة.

ويطالب أهالي ريف حمص بتحرك عاجل من المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية للتعامل مع هذه الكارثة الصامتة. فهم لا يحتاجون فقط إلى عمليات نزع ألغام مكثفة، بل أيضاً إلى برامج تأهيل نفسي واجتماعي للضحايا، ودعم اقتصادي للأسر المتضررة، وحملات توعية مكثفة لتقليل الحوادث. لكن في ظل استمرار الأزمة السورية وتعقيداتها السياسية، يبدو أن معاناة هؤلاء السكان ستستمر، وأن شبح الموت تحت الأرض سيواصل مفترساً أرواح الأبرياء في صمت.

- Advertisement -

- Advertisement -