لكل السوريين

مصياف تحترق.. غابات تتلاشى والأهالي يواجهون رماد الحياة

حماة/ جمانة الخالد

تحولت المساحات الخضراء الواسعة في منطقة مصياف الساحرة، حيث كانت الغابات الخضراء تزين الجبال وتنثر عبق الطبيعة في الهواء، إلى رماد أسود بعد موجة حرائق متتالية أتت على آلاف الأشجار والأعشاب، تاركة وراءها دماراً بيئياً واقتصادياً يصعب تعويضه. هذه الحرائق لم تكن مجرد كوارث طبيعية عابرة، بل كانت ضربة قاسية للسكان الذين يعتمدون على هذه الغابات في حياتهم اليومية، سواءً بجمع الأعشاب الطبية، أو برعي المواشي، أو بالاعتماد على السياحة البيئية كمصدر رزق أساسي.

يروي خالد، وهو رجل في الستينيات من عمره، عاش طوال حياته في قرية مجاورة لغابات مصياف، بحزن كيف احترق بستان الزيتون الذي ورثه عن أبيه وجده: “كنت أعتمد على هذا البستان في تأمين قوت عائلتي طوال السنة، زيت الزيتون كان يدر عليّ دخلاً يكفيني لشراء مستلزمات المنزل. الآن لم يتبقَ سوى جذوع محترقة، وسأحتاج إلى سنوات حتى تعود الأشجار لتثمر من جديد، إن عدت في حياتي.” ويضيف أن الحرائق لم تدمر الأشجار فحسب، بل قتلت العديد من الحيوانات البرية التي كانت تعيش في المنطقة، مما أفقد القرية جزءًا من توازنها البيئي.

أما أم ياسر، وهي سيدة من قرية أخرى تعتمد على تربية الماعز، فتقول إن الحرائق أحرقت المراعي التي كانت تذهب إليها بقطيعها كل يوم: “لم يعد هناك عشب كافٍ لإطعام الحيوانات، واضطررت إلى بيع بعضها لأنني لا أملك المال لشراء الأعلاف. الجبال التي كانت خضراء أصبحت سوداء، والماعز التي كانت تدرّ علينا الحليب واللحم أصبحت هزيلة بسبب قلة الطعام.” وتشير إلى أن العديد من العائلات في قريتها تعاني من نفس المشكلة، مما يهدد بانهيار قطاع الرعي الصغير الذي كان مصدر دخل أساسي لهم.

التأثير البيئي للحرائج كان مدمراً، فاختفاء الغطاء النباتي تسبب في تعرية التربة، مما يجعل المنطقة عرضة للانزلاقات الأرضية عند هطول الأمطار. كما أن انبعاث كميات هائلة من الدخان والغازات السامة أثناء الحرائق أثر على جودة الهواء، مما زاد من معاناة المرضى وكبار السن الذين يعانون من مشاكل في التنفس. يقول محمد، وهو شاب يعمل في مجال السياحة البيئية: “كان السياح يأتون إلى منطقتنا للتمتع بالطبيعة والهواء النقي، لكن بعد الحرائق، لم يعد هناك ما يلفت الأنظار. الكثير من الزبائن ألغوا حجوزاتهم، وخسرت معظم دخلي لهذا العام”.

ولم تقتصر الخسائر على الجانب الاقتصادي والبيئي، بل طالت أيضاً الذاكرة الجمعية لأهالي المنطقة، فالغابات كانت جزءًا من هويتهم وتراثهم. تقول جمانة، وهي معلمة في إحدى المدارس القريبة: “كنا نأخذ الطلاب في رحلات إلى الغابة لتعليمهم عن النباتات والحيوانات، وكانت تلك اللحظات تزرع فيهم حب الطبيعة. الآن، عندما ينظر الأطفال إلى الجبال المحترقة، يشعرون بالحزن والخوف، وكأن جزءاً من طفولتهم قد احترق مع الأشجار”.
وتتنوع أسباب الحرائق بين عوامل مناخية مثل ارتفاع درجات الحرارة وجفاف الأعشاب، وأسباب بشرية مثل الإهمال أو حتى الحرق المتعمد في بعض الحالات. لكن غياب الإجراءات الوقائية الكافية، وضعف عمليات الإطفاء بسبب نقص المعدات والكوادر، جعلت النيران تنتشر بسرعة هائلة، مما حال دون السيطرة عليها في وقت مبكر.

اليوم، يعيش أهالي مصياف على أمل أن تعود الغابات إلى سابق عهدها، لكنهم يدركون أن ذلك سيحتاج إلى سنوات طويلة، إن لم يكن عقوداً. في غضون ذلك، فإنهم يواجهون واقعاً مريراً من الخسائر المادية والمعنوية، حيث لم تعد الجبال الخضراء التي عرفوها وأحبّوها سوى ذكرى مؤلمة، تذكيراً بقسوة الطبيعة، وبالإهمال الذي حوّل هذه الكارثة إلى مأساة إنسانية وبيئية يصعب نسيانها.

- Advertisement -

- Advertisement -