لكل السوريين

آثار تدمر تُنهب وتُخرب عشوائياً

حمص/ بسام الحمد

في قلب الصحراء السورية، حيث تقف أعمدة تدمر شامخة كشاهد صامت على عظمة حضارة غابرة، تتعرض هذه المدينة الأثرية الفريدة لاعتداء جديد لا يقل خطراً عن دمار الحرب. فبعد سنوات من النزاع المسلح وسيطرة تنظيم داعش والفصائل التابعة لإيران، أصبحت المدينة العريقة مسرحاً لعمليات تنقيب عشوائي منهجي يهدد بمسح ما تبقى من إرثها الحضاري. هذه الحفريات غير الشرعية، التي يقوم بها عصابات منظمة مدعومة من جهات نافذة، تحولت إلى كارثة حقيقية تهدد بفقدان العالم جزءاً أساسياً من ذاكرته الإنسانية.

وتزخر أرض تدمر بكنوز أثرية لا تقدر بثمن، تعود إلى حقب تاريخية متعاقبة من الحضارة الآرامية والرومانية والبيزنطية. لكن هذه الثروة الثقافية أصبحت اليوم مطمعاً لشبكات تهريب دولية تعمل بالتواطؤ مع فصائل مسلحة وميليشيات محلية. تستخدم هذه العصابات معدات ثقيلة وحفارات في عملياتها الليلية، مما يتسبب في دمار شامل للطبقات الأثرية التي تشكل سجلاً تاريخياً مهماً. الأسوأ من ذلك أن هذه الحفريات تتم دون أي توثيق علمي، مما يعني ضياع المعلومات التاريخية التي كانت هذه القطع تحملها إلى الأبد.

وتتخذ عمليات التنقيب غير المشروع في تدمر أشكالاً متعددة، تتراوح بين الحفر العشوائي في المواقع الأثرية المعروفة، والبحث عن أنفاق ومقابر تحت الأرض، وحتى تفجير بعض المناطق للوصول إلى الطبقات السفلى. هذه الممارسات لا تدمر القطع الأثرية فحسب، بل تؤدي إلى انهيار هياكل أثرية صمدت لآلاف السنين. لقد تحولت بعض المواقع التي كانت تحوي معابد ومقابر ملكية إلى مجرد حفر غير منتظمة الشكل، تشبه جراحاً غائرة في جسد المدينة التاريخي. المشكلة تفاقمت بعد انسحاب تنظيم داعش،  والفصائل التابعة لإيران حيث تركا وراءهما شبكة معقدة من الأنفاق تحت المدينة، أصبحت الآن نقاطاً ساخنة للتنقيب غير القانوني.

ويبقى الدور الرسمي في حماية هذه المواقع غائباً، إذ لم تتخذ الحكومة السورية الانتقالية إجراءات حقيقية لمنع هذه الانتهاكات، الواقع المؤلم هو أن الكثير من هذه القطع انتهى بها المطاف في سوق الآثار السوداء، حيث تباع بأثمان باهظة لتجار تحف في بيروت وإسطنبول ودول الخليج، قبل أن تشق طريقها إلى مجموعات خاصة في أوروبا وأمريكا.

أما الخسائر الثقافية لهذه العمليات لا يمكن تعويضها. فكل قطعة أثرية تُنهب من تدمر هي صفحة تُنتزع من كتاب التاريخ الإنساني. هذه القطع لم تكن مجرد حجارة منحوتة أو تماثيل جميلة، بل كانت تحمل في تفاصيلها أسرار حضارة كاملة – لغة شعبها، معتقداته، أنماط حياته، وعلاقاته مع جيرانه. عندما يُدمر تمثال أو يُسرق لوح مسماري، فإننا لا نفقد مجرد قطعة فنية، بل نفقد مفتاحاً لفهم مرحلة كاملة من تطور البشرية. الأكثر إيلاماً أن الكثير مما يُدمر اليوم لم يتم دراسته أو توثيقه بشكل كافٍ، مما يعني أن هذه المعرفة ستفقد إلى الأبد.

ولا يعتبر التنقيب العشوائي في تدمر ليس جريمة محلية فحسب، بل هو جريمة ضد الإنسانية جمعاء. فبحسب اتفاقيات اليونسكو والمواثيق الدولية، تعتبر المواقع الأثرية ملكاً للبشرية كافة، وليس لأفراد أو مجموعات الحق في التصرف بها كما يشاؤون. ومع ذلك، تظل العقوبات الدولية على تهريب الآثار السورية ضعيفة وغير رادعة. السوق العالمية للآثار المسروقة تزدهر في ظل غياب رقابة حقيقية، حيث يتم تبييض القطع المسروقة عبر وثائق مزورة قبل بيعها في المزادات العالمية الكبرى. بعض المتاحف الغربية نفسها، رغم ادعائها الحرص على التراث العالمي، تتحايل على القوانين الدولية لشراء هذه القطع بذرائع مختلفة.

ولا تقل الآثار الاجتماعية والاقتصادية لهذه الظاهرة خطورة. فعمليات التنقيب غير المشروع خلقت اقتصاداً موازياً خطيراً في المنطقة، والكثير من الشباب العاطل عن العمل انجرفوا إلى هذا النشاط غير القانوني، إما بدافع الحاجة أو الجشع، معرضين حياتهم للخطر في صراع غير متكافئ مع العصابات الكبرى التي تتحكم بالسوق. هذه الظاهرة ساهمت في تفكيك النسيج الاجتماعي للمنطقة، حيث تحولت القيم المجتمعية لصالح ثقافة الكسب السريع، على حساب التراث الذي كان مصدر فخر لأبناء المنطقة لقرون.

إنقاذ ما تبقى من تدمر يتطلب تحركاً دولياً عاجلاً ومنسقاً. فالحكومة السورية الانتقالية تفتقر إلى الإرادة والموارد الكافية لحماية هذا التراث، والمجتمع الدولي مدعو لتحمل مسؤولياته التاريخية، سواء عبر زيادة الضغط على الدول التي تستقبل الآثار المسروقة، أو عبر دعم المنظمات المحلية التي تحاول توثيق وحماية ما تبقى. في النهاية، فإن معركة إنقاذ تدمر ليست معركة آثار فحسب، بل هي معركة للحفاظ على ذاكرة إنسانية مشتركة، وضمان عدم انقطاع الحوار بين الماضي والمستقبل.

- Advertisement -

- Advertisement -