تقرير/ جمانة الخالد
تحولت آلاف الهكتارات من الأراضي الخصبة في حمص وحماة إلى أراضٍ جرداء بفعل التدهور البيئي الذي ضرب البلاد. ففي ريف حمص الشرقي، يقف المزارع أبو أحمد أمام أرضه التي ورثها عن أجداده، يتأمل بحسرة التربة المتشققة التي لم تعد تنتج سوى الغبار. “هذه الأرض كانت تنتج 20 طناً من القمح سنوياً، أما اليوم فلا تكفي حصتها لسد رمق عائلتي”، يقول الرجل الخمسيني الذي اضطر لبيع جزء من ماشيته لشراء مياه الشرب.
أما في حماة، حيث كان نهر العاصي يشكل شريان الحياة للمدينة، فقد تحول مجراه إلى مكب للنفايات ومصدر للأمراض. أم علي، وهي سيدة في الستينيات من عمرها تعيش بالقرب من النهر، تروي كيف تحولت حياتها إلى جحيم: “في السابق كنا نستخدم مياه النهر للشرب والري، أما اليوم فأطفالي يعانون من أمراض الكلى بسبب التلوث”. هذه القصص ليست سوى غيض من فيض الأزمة البيئية التي تعصف بوسط سوريا.
وتشير الدراسات إلى أن أكثر من 60% من الأراضي الزراعية في محافظتي حمص وحماة تعاني من التصحر والتملح، نتيجة لعدة عوامل مترابطة. فمن ناحية، أدى قطع الأشجار العشوائي خلال سنوات الحرب إلى اختفاء 40% من الغطاء النباتي في المنطقة. ومن ناحية أخرى، تسببت أعمال النهب والتخريب في تدمير شبكات الري التقليدية التي كانت تعتمد عليها الزراعة منذ قرون.
ففي ريف حمص الشمالي، حيث كانت تنتشر بساتين الزيتون، تحولت المساحات الخضراء إلى مناطق قاحلة. أبو محمود، الذي كان يملك 200 شجرة زيتون، يقول بحزن: “قطعتُ 50 شجرة للتدفئة في الشتاء الماضي، لأنني لم أعد أستطيع شراء الوقود”. هذه الممارسات، التي انتشرت بشكل كبير بسبب الأزمة الاقتصادية، تساهم في تفاقم مشكلة التصحر وتقلص المساحات الخضراء.
أما في حماة، فالمشكلة الأكبر تكمن في تلوث المياه. فبالإضافة إلى تلوث نهر العاصي، تعاني المدينة من أزمة في شبكة الصرف الصحي التي دمرت بشكل كبير خلال الحرب. الدكتور خالد، وهو طبيب في مشفى حماة الوطني، يؤكد أن “أكثر من 30% من الحالات التي تستقبلها المستشفيات في المنطقة مرتبطة بأمراض ناتجة عن تلوث المياه”.
ويضيف التغير المناخي مزيداً من التعقيدات على هذه الأزمة. ففي السنوات الأخيرة، شهدت المنطقة تقلبات حادة في الطقس، بين موجات جفاف طويلة وفيضانات مفاجئة تدمر ما تبقى من المحاصيل. المزارع أبو ياسر من ريف حمص الغربي يصف الوضع بقوله: “في الماضي كنا نعرف مواعيد الأمطار بدقة، أما اليوم فأصبح الطربق غير مأمون”.
لا شك أن النتائج الاقتصادية لهذا التدهور البيئي كارثية. فبالإضافة إلى انهيار القطاع الزراعي، اختفت العديد من المهن والحرف التقليدية المرتبطة بالبيئة. في قرية الحولة بريف حمص، كان 70% من السكان يعملون في صناعة الحرير الطبيعي التي تعتمد على أشجار التوت. أما اليوم، فقد اختفت هذه الصناعة تماماً بعد موت معظم الأشجار بسبب الجفاف والتلوث.
ولا تقتصر المشكلة على المناطق الريفية. ففي مدينة حمص، التي كانت تعرف بـ”مدينة الأشجار”، تحولت العديد من الحدائق العامة إلى أراضٍ قاحلة. السيدة أميمة، وهي معلمة متقاعدة، تتذكر بحنين الماضي: “كنا نتنزه تحت ظلال الأشجار الكثيفة، أما اليوم فأصبحت المدينة خالية من الخضرة”.
في مواجهة هذه الكارثة البيئية، تبقى الحلول الحكومية محدودة وغير كافية. فمعظم المشاريع المعلنة تتركز في العاصمة دمشق، بينما تعاني المناطق الأخرى من الإهمال. الخبير البيئي الدكتور نزار الحسيني يوضح: “ما نحتاجه هو خطة شاملة تعالج المشاكل البيئية في سوريا ككل، وليس مجرد إجراءات ترقيعية”.
أما على المستوى المحلي، فقد بدأت بعض المبادرات المجتمعية بالظهور. في قرى ريف حماة الشمالي، ينظم الشباب حملات لزراعة الأشجار وتنظيف الينابيع. لكن هذه الجهود تبقى محدودة في مواجهة أزمة بهذا الحجم. الشاب أحمد، الذي يقود إحدى هذه المبادرات، يقول: “نحاول أن نغير ما نستطيع، لكننا نحتاج إلى دعم حقيقي من الجهات المعنية”.
ولا تعتبر الأزمة البيئية في حمص وحماة مشكلة محلية عابرة، بل هي جزء من كارثة وطنية تهدد مستقبل الأجيال القادمة. فبدون حلول جذرية وعاجلة، قد تتحول هذه المنطقة التي كانت سلة غذاء سوريا إلى صحراء قاحلة.