لكل السوريين

مع اشراقة الصباح

عبد الكريم البليخ

أشرق صباح جديد.. تفتحت أوراق جديدة، والعصافير الصغيرة بدأت تنتقل من غصن إلى آخر كأنها حين ترفرف بأجنحتها يرفرف الأمل في النفوس من جديد، وأنا أقف مبهور الأنفاس أحدّق بلهفة في كل مظاهر الجمال من حولي هذا الصباح، وكأنني أخشى أن تمرّ لحظة ما دون أن تُعانق عَيناي هذه الوريقات الخضر، أو تلك الزهرة الندية، أو ذلك العصفور الذي يدخل الحُبور إلى القلوب وهو يُطرّز أغانيه الجميلة على أجنحة النسيم الهادئ.

ومن بحر الصمت في أعماقي تتدفق الأسئلة، تشقّ طريقها في زحام مشاعري، وصخب أحاسيسي وهي تحاول أن تصل إلى عيني وشفتي لأبحث لها عن جواب.

علامات الاستفهام تدقّ في ذهني عموداً طويلاً ينتصبُ شامخاً بين بقية الأفكار والخواطر.. ويلحّ سؤال يقول: ما سرّ هذه الحياة؟ ما سبب هذا التغيّر الدائم في أحوالها؟

إشراق وغروب.. دمعة و ابتسامة.. اخضرار وذبول.. وتضيع بقية الحروف والكلمات وهي تجدف في داخلي تبحث عن شاطئ ترسو إليه، أو صخرة عملاقة تتكسر على جوانبها هذه الحيرة اللامتناهية.

ويقفز سؤال آخر: هذه اللحظات والساعات التي نعيشها الآن قد نحسّ بها، ويذكرنا بوجودها عقارب الساعة التي تدور وتطوى مع خطواتها ساعة أو يوماً من أعمارنا المثقلة بالهموم والأوجاع، وكثير من الآلام والمآسي، وحين تتركنا هذه اللحظات وتلك الساعات تتحول إلى الماضي.. إلى الأمس ونبقى نحن سائرين على هذا الدرب.

اليوم الذي نحياه الآن سوف يتحول إلى أمس، والغد المجهول الذي ننتظره بلهفة وشوق سوف يتحول إلى اليوم ثم إلى الأمس كثيراً. كلهم أشقاء يعيشون في بيت الزمن، وتحكمهم قوانين الدهر .. ملامحهم تتقارب أحياناً أو تتباعد أحياناً أخرى. ولكنهم مع هذا يبقون أشقاء، جسدهم تنبض فيه الساعات والدقائق، ونافذتهم تشرق منها شمس واحدة وتغيب عنها شمس مماثلة.

تتكاثر الأسئلة، وتتزايد علامات الاستفهام في داخلي حتى يصبح بحر الصمت في أعماقي بحراً هائجاً متلاطماً تتدافع فيه المراكب المحملة بالأفكار ذات الأشرعة الملونة بالحيرة التي لا تنتهي.

وأنقل عيني من داخلي.. وأعلق نظراتي بالموجودات من حولي.. ما زال كل شيء في مكانه لم يتغير.

الأوراق كما هي خضراء تلهو بها يد الريح العابثة، والعصافير تنتقل بين الأغصان، والشمس تسكب أنوارها في عيون الطبيعة الظمأى للحنان الممتزج بأنفاس الضياء.

لم يتغير شيء، وهكذا الحياة دوماً.. هذه هي سنة الكون، نحن نتحرك.. نذهب ونجيء، نضحك، نبكي.. نكبر، نضعف، ثم نموت.. وكل شيء يسير وفق نظامه دون اختلال.

الآن، فقط أحس بسحب الحيرة تتلاشى شيئاً فشيئاً عن نبضاتي وخفقاتي.. الراحة تغمر نفسي بألوانها الهادئة الحالمة.. فنحن البشر كذرّات التراب تنقلنا يد الريح من مكان إلى مكان، وقد نستقر هنا لحظة أو زمناً طال أم قصر، ثم لا تلبث الريح أن تنقلنا إلى مكان آخر، أو حتى تلقي بنا نحو عالم آخر، تتلاشى فيه خلايانا وأجسادنا، وتبقى أرواحنا هائمة، حتى النواية التي لا نعلم متى هي .. ومتى زمانها، وأين تحدث؟

كل شيء من حولنا يسير بنظام، وهذا ربما يخفّف عنّا الشعور بالحيرة والتشتت والضياع، وربما يجعلنا نكفُّ عن التردّد كل لحظة: لمَ خلقنا؟ لمَ نعيش؟ لمَ نتعذب؟ لمَ نضحك؟ ولمَ نموت؟ فكل قطرة ماء تسكبها السماء لا تضيع.. قد تتوجه إلى أعماق البحر أو النهر وتسكن هناك وتستقر.. أو إلى باطن الأرض، تتغلل في جسد التراب وبين شرايينه وخلاياه وتسكن هناك وتستقر، ولكنها لا تبقى هكذا دونما فائدة، يأتيها الإنسان ويلتقطها ويروي بها ظمأه، أو ظمأ الأرض والنبات، أو يَشيدُ بها ويعمّر، أو يفعل بها ما يشاء.. لكنها لا تضيع وهكذا نحن لا تضيعُ أعمارنا ولا تندثر لحظاتنا وتطوى في صفحات كتاب الزمن دون عودة.

فكل فكرة، وكل كلمة، وكل هاجس، وكل عمل نؤديه بأي جارحة من جوارحنا لا يضيعُ ولا يتبدد في الفراغ.. وإن ابتعد عن أنظارنا واختفى عن ذاكرتنا، فإنه سيبقى هناك حتى نعود إليه، أو يعود إلينا في نهاية المطاف.