لكل السوريين

الاستبداد يعيد تشكيل السلوك المجتمعي ويعمّق أنماط الخضوع والعنف

سلاف العلي

الاستبداد هو الانفراد بالرأي دون مشورة، ويُعرف في السياق السياسي على أنه حكم طاغية أو مستبد يمارس السلطة بطرق مجحفة وتعسفية، حيث تتركز كافة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في يد واحدة. هذا النمط من الحكم يتميز بفردية أنانية وعدوانية، ما يجعله انعكاساً لاضطراب نفسي عميق، ويؤدي إلى نشوء بيئة سياسية واجتماعية قائمة على الإكراه والقهر.

في جوهره، يقوم الاستبداد على استحواذ فرد أو مجموعة على إرادة المجتمع من خلال السيطرة على مفاصل الدولة دون وجه حق. الحاكم المستبد يتولى السلطة بطرق غير شرعية ويمنع تداولها سلمياً، كما أنه يحكم بهواه ودون الرجوع إلى أهل الخبرة أو التقيد بالقانون، متجاهلاً بشكل تام رأي المحكومين. وتكمن خطورته في التفرد بالسلطة والرأي وقمع أي معارضة محتملة، سواء كان هذا المستبد أباً، أو عائلة، أو عشيرة، أو رجل دين، أو معلماً، أو حزباً سياسياً.

السلطة المستبدة هي تلك التي تمارس حكم الناس دون أن تخضع هي نفسها للقانون، إذ ترى في القانون قيداً على المحكومين فقط، وليس على الحاكم. وهي سلطة تستند إلى منظومة فكرية تقوم على تغييب القيم الأخلاقية والإنسانية، وتعتمد في استمرارها على القمع والعنف كأدوات رئيسية لترسيخ نفوذها. هذه الممارسات لا تنتج فقط قهراً سياسياً، بل تصوغ منظومة سلوكية وثقافية جديدة في المجتمع، تنقل الأفراد من حالة التفاعل الإنساني إلى مناخ إرهابي وعنفي، يجعل من القوة والعنف أدوات رئيسية في تنظيم العلاقات بين الناس.

تمارس سلطة الاستبداد القهر بأساليب منهجية، وتعمل على إحداث اضطرابات وعدم انتظام في أنماط السلوك الاجتماعي، من خلال ابتكار وسائل جديدة للعنف والسيطرة، تهدف إلى إطالة أمد حكمها. في الوقت ذاته، تسعى هذه السلطة إلى ترسيخ مفاهيم الإذعان والخضوع في وعي الإنسان المقهور، حتى تُشلّ حركته ويعجز عن المقاومة لسنوات طويلة. ومن خلال هذا النهج، تنجح السلطة في إضعاف أي توجهات فكرية معارضة، وتمنعها من التغلغل داخل مفاصل المجتمع، ما يرسخ شعوراً دائماً بالخطر وعدم الاستقرار في لاوعي الأفراد.

نتيجة لهذه البيئة، يتحول الإنسان المقهور إلى كائن دائم الدفاع، حذر من كل ما يمتّ بصلة إلى السلطة، ويصاب مع مرور الوقت بحالة من العجز واليأس، ويفقد القدرة على المبادرة أو الاعتراض. ومع استمرار العنف والاستبداد لسنوات، تتشكل في المجتمعات أنماط من السلوك تتناقض مع القيم الأساسية لحماية الذات، وتصبح هذه الأنماط غير السوية جزءاً من الذاكرة الجمعية، تنتقل من جيل إلى جيل.

وتبرز هنا ظاهرة ارتداء “الأقنعة الاجتماعية”، حيث يضطر الأفراد إلى إخفاء آرائهم ومشاعرهم الحقيقية لحماية أنفسهم من بطش السلطة. ويصبح من الصعب جداً التخلص من أنماط السلوك القائمة على الخضوع والإذلال، لأنها لم تعد مجرد رد فعل، بل أصبحت نمط حياة راسخاً.

في المجتمعات التي تحكمها الأنظمة المستبدة، يتحول مجرد الانتماء إلى عائلة الحاكم أو رموزه أو عشيرته إلى مصدر قوة، يتيح للفرد ممارسة البطش وفرض الهيمنة على الآخرين. ومع اتساع نفوذ هذه الفئة، تُفرض حالة عامة من الإذلال الجماعي، ويُجبر المجتمع على التماهي مع سلطة الاستبداد من أجل البقاء.

وتنطلق دوافع السلطة المستبدة في استخدام العنف من شعورها العميق بعدم الشرعية وبغياب التأييد الشعبي. هذا الشعور يدفعها إلى تصعيد ممارسات القمع ضد المجتمع، وكلما زاد الرفض الشعبي لها، زادت وتيرة بطشها واستبدادها. في هذا السياق، تتفكك الروابط الإنسانية بين أفراد المجتمع، وتُستبدل بعلاقات قائمة على تحقيق المصالح الذاتية، وغالباً ما يكون ذلك على حساب الآخرين.

تؤدي هذه الظروف إلى انهيار منظومة القيم الاجتماعية، وتحوّلها إلى قيم هجينة تخدم مصالح السلطة وتُضعف مناعة المجتمع الأخلاقية. ولا تقتصر آثار الاستبداد على فترة الحكم فقط، بل تمتد إلى ما بعد زوال النظام، حيث تظل الكوارث الاجتماعية والنفسية حاضرة، وتحتاج إلى سنوات طويلة من الإصلاح لإعادة بناء الثقة والعلاقات الإنسانية.

وفي المحصلة، يكشف الواقع أن آثار القهر والاستبداد لا تزول بزوال الحاكم أو النظام، بل تبقى راسخة في بنية المجتمع وسلوك أفراده، وتُظهر نتائجها الكارثية بوضوح في الفترات التي تلي انهيار تلك الأنظمة، ما يجعل التعافي منها تحدياً وجودياً طويل الأمد.