لكل السوريين

هل فقدت المطبوعة دورها؟

عبد الكريم البليخ

لا شكَّ أنّ القرّاء مسؤولون بشكلٍ أو بآخر عن جودة أو سطحية المطبوعات الصادرة إليهم.. فصمتهم واستسلامهم لما يُنشر هو بمثابة الرضا عن مضمون ما يُطرح، والتغاضي عن الأساليب الغريبة التي تمتهنها بعض الصحف والمجلات العاملة اليوم بتجاوزها للقضايا الأساسية التي تهمّ الجماهير، وتسليط اهتمامها على الأخبار الطريفة الملوّنة التي تلهي الناس وتثير فضولهم بدعوى معرفة غرائب العالم، والتوقف عند عالم الجريمة، ورصد ما يمكن أن يثير القارئ، وإلى آخر ما توصلت إليه الصور العجيبة، وما أفرزته السينما العالمية من نوادر وأخبار مشاهيرها ومغموريها، بالإضافة إلى الاهتمام بأزياء الموضة والأكلات المفضلة، وما وصلت إليه شركات صناعة السيارات في عالمها الغريب، علاوة على الهواتف المحمولة، وعالم البرمجيات المختلفة وما توصلت إليه من اختراعات حديثة، ناهيك بالتوقف على أشهر الأماكن السياحية في العالم، وعرضها لبرامجها وتصنيفاتها، فضلاً عن الفعاليات الأخرى التي تظلّ بعيدة عن اهتمام القارئ!.

إنَّ العلاقة المبتورة بين القارئ وبين صحيفته أو مجلته، كانت دافعاً لاستمرار صحافة التطبيل والتلميع وتزوير الحقائق، التي لم تلمس بعد احتجاج القاعدة العريضة من القرّاء على نوعية ما يباع لهم.

ليس على القارئ تصفّح جريدة أو مجلة ما، ثم الاكتفاء بالتعليق بينه وبين نفسه على محتوياتها، وخصوصاً إذا كان من الطليعة المثقفة، بل عليه دور يجب أن يتصدر القيام به  وهو توجيه هذه الصحافة ونقدها بالأسلوب الذي يملكه، أليست طليعة القراء هي السلطة العليا التي يجب أن تمارس نفوذها وثقلها لتغيير ما يستجد على الساحة بصفتها الفئة الراصدة بوعي لكل ما ينشر؟ وألّا تملك هذه الشريحة القارئة تصحيح مسار هذه المطبوعات وتحديد أوجه طرحها؟.

إنَّ الوعي أداة خلّاقة بإمكانها صنع صحافة قوية لا تقبل المساومة، فضلاً عن أن القراء يستطيعون إجبار مسؤولي المطبوعة بتناول قضية ما، والبت فيها أمام الرأي العام، وذلك باتصالاتهم وإلحاحهم وضغطهم.

إنّ أغلب الحجج التي يتخفّى وراءها أصحاب المطبوعات إنّما هي أوهام زرعها الصمت الطويل في أذهانهن، وبمقدور قاعدة القرّاء استرجاع قلم كاتب ارتأت إدارة مطبوعة ما التخلّي عنه ضغطاً في المصروفات أو ضيقاً عن متابعة ما يثيره من آراء قد يُعرّضها لمساءلة السلطات، وهذا ما لا تود الخوض فيه.

فمنذ متى كانت الصحافة مسايرة للواقع.. تزحف خلف الأحداث ولا تساهم في صنعها؟. إنّها تركن إلى الهدوء والسكينة إذا كان قارؤها مستأنساً أليفاً لا يحتجّ ولا يتململ ولا يخترق بصوته الأجواء ليهزّها من سكونها البليد ويدفع بها إلى حَلبة المعارك الساخنة.

متى سيستيقظ القرّاء من غفوتهم التي تصوّر لهم بأنّ مهمّة الصحافة هي صنع المستحيل بمنأى عنهم وبدون تدخلهم بينما تنحصر مهمّتهم في قراءة المطبوعات فحسب، ومتى عجزت المطبوعة عن تحقيق الذي ينتظرون، فهي إذن فاشلة وسيئة ومبتذلة.

الصحافة .. أقلام تحتاج إلى مبّراة حرص القرّاء ومتابعتهم، فإذا بخلوا بها أخذ القلم يتحرك دون أن يترك كتابة ما، بل ظلّ مكانه محلك سرّ.. وبذلك توقف تطور القلم، والصحافة تكون أحياناً أفكاراً تتحدث لكنها لا تجد الصدى الذي يسترجع ما ناقشت، أو يعقّب على ما طرحت فتموت الفكرة وتتحلل إلى صفحات مكرورة، والصحافة تكون أحياناً قلماً جَموحاً لا يجد من يُلجمه بالتوجيه والرصد، فيخطئ طريق الإبداع، ويتمنطق في برجه العاجي، ويفقد لغة الاتصال مع القرّاء ويصبح وكأنه يخاطب كائنات من صنع خياله.

الصحافة الحقيقية هي التي تقف في وجه المدفع.. هي النزال إن تفجّرت الحرب. هي الكلمة الصاروخ إن عزَّ الكلام، وهي القاعدة التي تضمّ مختلف التوجهات لتصوغها في ضمير يتسلل إلى الأعماق لا ليخدّرها، ولكن لينفث دماء الحقيقة في شرايينها.

إنّ المطبوعة بدون قرّاء تفقد مكانتها بين الناس، وهي مثال لغة غريبة لا يصاحبها شريط ترجمة، وعندما تفقد الصحافة حميمية العلاقة مع قارئها تتحول إلى مجرد نشرة رسمية تختص بطباعة البيانات الحكومية وتحتاج إلى موظفين لا إلى ـ قرّاء ناضجين ـ لفكّ رموزها الروتينية المصكوكة بالشمع الأحمر..!