لكل السوريين

المصالحات

صالح مسلم

المصالحة هي لغوياً عملية صلح بين طرفين متخاصمين يجريها طرف ثالث ليتنازل الطرفان عن بعض مطالبهما في توافق يقتنع به الطرفان، وربما بضمانات من الطرف الوسيط الثالث كي لا يعود الطرفان إلى التنازع مرة أخرى. ولهكذا صلح أو مصالحة بعض الظروف والشروط التي تضمن الإستمرارية. منها أن يكون الطرفان مقتنعين بما تم التوافق عليه. وأن يكون الطرف الثالث الوسيط محايداً وقوياً بما يكفي لإرغام الطرف الذي يخل بشروط الصلح.

هناك أمثلة وفيرة في التاريخ على الصلح أو المصالحات، منها ماكان بين دولتين متحاربتين، أو بين تحالفين من عدة دول متحاربة كما حدث في نهاية الحربين العالميتين. أو بين قبيلتين أو عشيرتين أو حتى بين أسرتين أو شخصين متخاصمين وقواعد التوسط والوصول إلى توافق لم تتغير في كل الأحوال.

هناك بلاد تعرضت لحرب داخلية بين المكونات المختلفة كما في لبنان أو البلدان التي فيها طوائف مختلفة مثل العراق أو السودان وجنوب أفريقيا، بعضها استطاع التغلب على هذه المعضلة والبعض الآخر لا زال معلقاً وبمثابة قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أية لحظة. وما حدث في جنوب أفريقيا كان ملفتاً ومثالاً يمكن الإقتداء به. حيث عقدت محاكمات أو جلسات للمكاشفة دون إصدار أي أحكام على الجرائم العنصرية المرتكبة في ظل الحكم العنصري، حيث ظهر مرتكبوا الجرائم العنصرية على الملأ واعترفوا بجرائمهم واعتذروا، أي طلبوا العفو والمغفرة فعفا الشعب عنهم، وبذلك صفيت القلوب والضحايا لم يطالبوا بالثأر.

ما حدث في سوريا هو أن حزب البعث الذي تحكم في رقاب الناس أراد تحويلهم إلى قطيع على مدى نصف قرن، بينما إحتكار السلطة والثروة تحكم في السياسة والموارد، وكل من أراد نفحة من الحرية أو الحقوق المشروعة كان مصيره إما السجن أو التعذيب حتى الموت وإما الفرار من البلاد، وازداد الشعب فقراً سوى قلة قليلة تحيا إلى جانب أو على فتات أوليغارشية البعث. بينما أغلب المجتمع السوري بات تحت خط الفقر، وأصبحت الأوضاع لا تطاق، وبات الشعب السوري كقنبلة تنتظر من يفجرها، وجاء ربيع الشعوب (الربيع العربي) بمثابة مفجر لها.

انطلقت الشرارة الأولى من درعا وبدأ الشعب السوري كله ينادي بالحرية والديموقراطية بالسبل السلمية والتظاهر إلى أن بدأ النظام باستخدام العنف ضد المواطنين العزل، مما هيأ الأجواء لظهور المجموعات المسلحة بعضها للدفاع الشعب والبعض الآخر ظهر نتيجة للقوى الخارجية التي لها مصالح ولديها حسابات أخرى، وبنتيجتها اختلط الحابل والنابل ووصلت سوريا إلى الوضع الذي نراه اليوم. مئات آلاف الشهداء وضعفهم جرحى ومعوقين، وملايين المشردين وملايين أخرى من اللاجئين الذين يتسكعون على أبواب الآخرين.

النظام السوري الذي هو رب البيت لم يستطع القيام بواجبه نحو شعبه من حيث الحماية والقيادة السليمة، فخسر كل مناطق الوطن السوري سوى نسبة قليلة، مما جعله يستنجد بالقوى الخارجية لتمكين سلطته، وبدأ يوسع مناطق نفوذه من جديد بفضل القوى الخارجية. وبدأ يعتقد ويحاول إقناع الآخرين بأنه انتصر. بناء عليه بات يفرض إرادته على الآخرين تحت اسم المصالحة الوطنية مع الأفراد ويلمح بالعصا تحت العباءة. مما يعني فرض شروط الإستسلام. والوسيط في هذه المصالحة هو حليف النظام، وليس محايداً.

النظام السوري لم يتنازل قيد أنملة عما كان يعمل به قبل ثورة الشعب السوري، فهو يدعي أن كل ما جرى كان مؤامرة دولية على النظام، وكأن الشعب السوري لا يليق بأي شيء من الحرية والديموقراطية. نعم كان هناك من سعى إلى تأسيس الخلافة ولا زال هناك من يجاهد لتأسيس ولاية إسلامية ولكن كل ذلك لا يمثل مطالب الشعب السوري. والحل لا يكمن في العودة إلى ما قبل 2011. ولهذا قام النظام بإنشاء ما يسمى بوزارة المصالحة الوطنية، وهي الوزارة التي تعمل مع أجهزة المخابرات للإيقاع بالمواطنين وتحويلهم إلى عملاء لأجهزة المخابرات كما كانت تفعل في السابق، وكأن المواطن قد أصبح مجرما لمطالبته بالحرية والديموقراطية بينما النظام يقول له عليك بالتوبة الصادقة والإستغفار حتى تبقى على قيد الحياة. والإغتيالات التي لم تتوقف إلى الآن في درعا هي بسبب أن من تصالحوا لم تكن توبتهم صادقة. أما إذا كنت شاباً أو عمرك مناسباً فلا بد من الإلتحاق بالخدمة الإلزامية أو الإحتياطية ليس لحماية الوطن وإنما لحماية النظام ضد كل من لا يعزف على وتر النظام، أي أن تقاتل أخاك السوري تحت اسم محاربة الإرهاب.

لقد حاول النظام إغراء العديد من المواطنين تحت يافطة المصالحة، والهدف هو تفتيت الشعب، وتفتيت بنية المعارضة الحقيقية المطالبة بالحرية والديموقراطية. فهل سأل هؤلاء الذين ارتموا في أحضان النظام: أين كان النظام عندما تعرضنا للذبح والقتل وخطفت بناتنا ونساءنا؟ لقد سحبتم جيشكم من كافة المناطق لحماية قصوركم ومعاقلكم. والآن تطالبوننا بالمصالحة فهل تنازلتم عن عنجهيتكم وإستبدادكم قيد أنملة؟ وهل إعتذرتم من الشعب لتقاعسكم عن حمايته وقيادته إلى السلام والأمان؟ وهل اعترفتم بجرائمكم بحق الشعب قبل الثورة وأثناءها؟ وهل تخلت أجهزتكم الأمنية عن اعتقالاتها المزاجية وأساليب التعذيب ؟ إن أقبية المخابرات لديكم لا زالت تعج بالوطنيين الشرفاء الذين طالبوا بنفحة من الحرية أو لقمة عيش كريم.

إن المصالحات التي يطلبها النظام وأجهزته ما هي سوى دعوة إلى الإستسلام الذليل الذي لا يقبل به من يمكلك ذرة من الكرامة وعزة النفس.