لكل السوريين

إجراءات السلطة تحدث تدهوراً للوضع المعيشي في الساحل السوري

تشهد مدن الساحل السوري، من اللاذقية وجبلة إلى بانياس وطرطوس، تدهوراً متسارعاً في الأوضاع المعيشية للسكان، في ظل ما يصفه الأهالي بالإجراءات العشوائية والتعسفية التي تتخذها السلطة الحاكمة في دمشق، والتي باتت تنذر بكوارث اجتماعية وأمنية خطيرة. المواطنون في تلك المدن يواجهون تحديات يومية قاسية، من فقدان الخبز وارتفاع الأسعار الجنوني إلى تسريح الآلاف من أعمالهم، ما يهدد بانفجار شعبي في حال لم يتم التراجع عن هذه السياسات أو التعامل معها بعقلانية.

يرى كثيرون أن القطيعة مع ماضي الحكم الاستبدادي الذي أذاق السوريين العذاب والذل كان ضرورياً، غير أن الطريقة التي جرت بها الإجراءات الأخيرة، والتي شملت فصل موظفين وحرمان آخرين من رواتبهم أو استثناء المتقاعدين من الزيادات، تجاوزت حدود المعقول. إذ يعتبر المواطن السوري أن قطع الرزق هو بمثابة قتل للأسرة، وليس للفرد فقط، وهو ما يجعل هذه الإجراءات مصدراً رئيسياً لخلق أزمات اجتماعية كالفقر والتشرد والبطالة وارتفاع نسب الطلاق والدعارة وانتشار الجريمة المنظمة وتجارة الأعضاء والمخدرات، إضافة إلى اتساع ظاهرة عمالة الأطفال ونبش القمامة والتسرب من المدارس.

في شوارع اللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس، بات مشهد الطوابير الطويلة أمام الأفران خبزاً يومياً، حيث يضطر المواطنون للانتظار لساعات في سبيل الحصول على ربطة خبز واحدة، في حين يستغل سماسرة السوق السوداء هذا الواقع، ويبيعون الربطة بمبلغ يصل إلى 10,000 ليرة سورية، بأقل من عدد الأرغفة المخصص رسمياً. هذه الأزمة ليست منفصلة عن الانهيار الاقتصادي الشامل الذي تعانيه البلاد، إذ تتآكل القدرة الشرائية للأجور يوماً بعد يوم، وسط غياب أي خطط إنقاذ اقتصادية فعالة.

لم تعد تكاليف المعيشة مقتصرة على الغذاء فقط، بل تشمل السكن والمواصلات والتعليم والرعاية الصحية والاتصالات، وهي نفقات باتت خارج قدرة معظم الأسر، حتى تلك التي كانت تعتمد على وظائف الدولة. ومع تزايد أعداد المسرحين وانقطاع الرواتب وغياب البدائل، اتسعت الهوة بين الدخل والإنفاق بشكل ينذر بكارثة معيشية شاملة، حيث لم تعد الأسرة قادرة على تأمين الحد الأدنى من مستلزمات الحياة.

أما القطاع الصحي، فقد بات عبئاً جديداً ينهك كاهل المواطنين، إذ تحولت كلفة العلاج إلى خطر موازٍ للمرض نفسه. كثير من الحالات الصحية الطارئة تنتهي بفقدان الحياة، لا بسبب خطورتها، بل لأن المريض لا يملك ما يدفعه، في ظل غياب أي دور فعلي للدولة في دعم القطاع الصحي أو تقديم تأمين صحي حقيقي يغطي الحالات الحرجة. هذه الفجوة المتزايدة بين الحق في العلاج والقدرة على الوصول إليه، تشكل أزمة إنسانية تتطلب تدخلاً عاجلاً وحقيقياً.

النظام الحالي للأجور في سوريا يُعد من الأسوأ إقليمياً وعالمياً، حيث لا تتناسب الرواتب مع تكاليف المعيشة، ما يزيد من ضغوط الحياة على المواطنين، الذين يواجهون أسعاراً مرتفعة بلا أي رقابة حقيقية، مقارنة بدول مجاورة تقدم أجوراً أعلى وسلعاً أرخص.

في هذه الظروف القاتمة، يزداد تلاشي مفهومي الأمن والأمان، وهما الركيزتان الأساسيتان لأي حياة كريمة. فإلى جانب غياب الأمان الاقتصادي، يشعر السوريون في مدن الساحل، كما في غيرها، بانعدام الأمان الشخصي، وسط تزايد جرائم القتل والخطف والسطو، وبعضها يحدث على مقربة من مراكز الشرطة، دون أي محاسبة. كما تنتشر ظاهرة الاستيلاء على الممتلكات دون وجه حق، ما يعكس استفحال الفساد وتراجع هيبة القانون، وهو ما تسبب أصلاً في اندلاع احتجاجات في عدد من المدن.

اليوم، وبعد نحو 15 عاماً على اندلاع الثورة، بات معظم السوريين يفتقدون حتى لأبسط أشكال الأمان الوظيفي، فالكثيرون ممن تم تسريحهم فقدوا حتى الشعور بأمان رمزي كانت توفره وظائفهم رغم تدني أجورها. ومعهم أيضاً المتقاعدون الذين لم تطلهم زيادات الرواتب، والعاملون في الأجهزة الأمنية والعسكرية الذين وجدوا أنفسهم فجأة بلا عمل أو دعم.

ما يجري في مدن الساحل السوري، يعكس واقعاً أوسع يعيشه عموم السوريين، قلق، رعب، انعدام الثقة بالمستقبل، وغياب أي بوصلة واضحة. ورغم أن الحكومة الحالية تُعد حكومة تصريف أعمال، إلا أنها اتخذت قرارات مصيرية مست حياة ملايين المواطنين، في مخالفة صريحة للدستور ولحقوق الإنسان، وفي وقت يعيش فيه أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر.

هذه السياسات، إذا ما استمرت، لن تقود فقط إلى مزيد من الانهيار الاجتماعي والاقتصادي، بل قد تجر البلاد إلى انفجار شعبي واسع، في ظل غياب الحلول وغياب الحد الأدنى من العدالة في التعامل مع المواطنين.