عبد الكريم البليخ
تشهد الأرض السورية تغيّراً جديداً. تغيّر لا يأتي به المطر، بل تأتي به قرارات من خلف المكاتب، حيث تُقرّر مصائر قطعانٍ عاشت في المراعي أكثر مما عاشت في الحظائر، وتحدّدت أثمانها بعملةٍ لا تفهمها تلك العيون الحيوانية البريئة التي لا تعرف من العالم غير الندى والصدى.
ففي آذار الأخير، سمحت الحكومة السورية بتصدير 200 ألف رأس من ذكور الأغنام العواس وذكور الماعز الجبلي، إضافة إلى 20 ألف رأس من العجول الحيّة. كان هذا القرار بمثابة قبس أملٍ لمربّي الماشية الذين أثقلتهم الخسائر، لا سيّما بعد سقوط النظام السابق، حين تهاوت الأسعار كما تهاوت السقوف الطينية التي تحمي رؤوسهم، فانخفضت قيمة الحيوان إلى أقل من نصف ما كانت عليه، وكأنّ كل ما رعوه ورعته قلوبهم، أضحى بلا قيمة تُذكر.
لكن ليست المواشي وحدها ما كان يُرعى في تلك الحقول ـ كان يُرعى أيضاً حلم الاستقرار، حلم البقاء في الأرض، حلم أن لا تُضطر الأسرة لذبح أنثى الخروف لأنها لم تجد علفاً لإطعامها، أو أن تبيع الذكر الأكبر لأنه لم يعد في البيت ما يُطبخ. التصدير بدا كجسر يُمكن أن يعيد شيئاً من ذلك الحلم الممزق.
إن التصدير الذي اتخذ جاء ليعالج خساراتٍ قديمة، بعضها مالي وبعضها الآخر معنوي. لم يكن التهريب مجرد نقلٍ غير شرعي للبضائع، بل كان خيانة خفيّة لأملٍ معلّق. كانت المواشي تُهرّب إلى الأردن ولبنان والعراق في غفلة من القانون، كأنها تغادر الوطن دون جوازات ولا وداع.
ولكن التصدير الرسمي أوقف هذا النزيف. فأصبح بإمكان المربّي أن يبيع مواشيه بأسعار منصفة نسبياً، خاصة مع موسم الحج في الأفق، حيث ترتفع قيمة الذكور القوية من الأغنام والعجول، ويصبح لكل خروف قيمة مضاعفة، لا بوصفه طعاماً بل بوصفه قرباناً، رمزياً وروحياً.
ارتفع سعر كيلو الغنم من 38 ألفاً إلى 65 ألف ليرة سورية، وهذه قفزة لم تعرفها الأسواق منذ سنوات. ومعها، ارتفعت التوقعات، وتفتحت شهية المربين، لكن في الوقت ذاته، ازدادت حيرة المستهلك الفقير الذي بات يراقب اللحمة من وراء الزجاج كما يراقب المارّ الذهب في واجهات محلاته: شيء جميل، لكنه ليس له.
أن ترتفع أسعار اللحوم في بلدٍ يعاني من تضخم جنوني ونقص بالرواتب وضعف في البنية الاقتصادية، فهذه ليست مجرد أزمة غذائية، بل أزمة وجود. أصبح لحم الغنم يُباع بـ5 إلى 5.5 دولارات، ولحم العجل بـ4 دولارات. هذا يعني أن الغداء اليومي لعائلة متوسطة بات أقرب إلى الترف. وتحول اللحم من عنصر غذائي إلى حلم أسبوعي أو شهري، وربما موسمي.
أصبح السوري الفقير يقتني اللحم كما يقتني الذكريات ـ نادرة، باهتة، وشبه منسيّة. وتحوّلت الأسواق إلى مسارح للجدل النفسي: هل نشتري أم ننتظر؟ هل نذبح خروف العيد، أم نبيعه وندفع القسط المدرسي؟
لكن لا يأتي الارتفاع فقط من التصدير، بل من عمقٍ آخر أكثر مأساوية: الجفاف. قلة الأمطار خلّفت أراضيَ جرداء، ومراعيَ عطشى. لم يعد للأغنام ما تأكله إلا إذا اشترى المربّي العلف، والعلف صار ذهباً أخضر، تُنظّمه جمعيات تعاونية تُقدّم كميات ضئيلة وجودة متدنية، بينما تباع النوعيات الجيدة في الأسواق الحرة بأسعارٍ لا ترحم.
إن المربين بحاجة إلى دعم حقيقي: دعم بالأعلاف، بالمياه، بالأدوية البيطرية، وبالقوانين التي تفهم معنى أن تكون مربياً في سوريا اليوم. في عالم المربين، لا تُقاس الثروة بعدد الرؤوس فقط، بل بالقدرة على الإبقاء على القطيع حيّاً ليومٍ آخر.
في دير الزور، على حافة الصحراء، إن المربّين كانوا يُجبرون سابقاً على بيع جزء من قطعانهم لإطعام ما تبقى. إنه شكل من أشكال الأكل الذاتي، حيث تلتهم المهنة نفسها، ويُصبح المربّي مثل الشاعر الذي يحرق دفاتره ليُدفئ نفسه.
ما بين مرفأ طرطوس ومعبر نصيب، شقّت المواشي طريقها نحو الخليج، نحو لحم المندي والمشويات الفاخرة، حيث يُستقبل الخروف السوري بحفاوة، ويُباع بأسعار تجعله حلماً لتاجرٍ ومأساةً لربّة منزل. هذا الانتقال البحري لم يكن سهلاً ـ إذ تتطلب عملية التصدير تراخيص، فحوصات بيطرية، تخليصاً جمركياً، وانتظاراً طويلاً بين المرافئ والمرافعات.
لكن رغم التعقيدات، يواصل التجار شحن الأغنام، لأن الأرباح كبيرة، والطلب مرتفع، والتشجيع الحكومي واضح. ومع ذلك، يظل الخوف قائماً: ماذا لو ارتفعت الأسعار أكثر؟ هل سيتوقف التصدير؟ أم سيبقى الوطن يصدّر ما تبقى من خيراته لتأمين القطع الأجنبي؟
أيهم عبد القادر معاون وزير الزراعة لشؤون الثروة الحيوانية، أكد إن التصدير يُسهم في كسر الجمود، وفي دعم الخزينة، وفي مواجهة التهريب. هذا صحيح. لكن هناك سؤالاً أكبر: هل هذه الأرباح المؤقتة تعني تنمية مستدامة؟ أم أننا نبيع أصولنا لندفع فوائد ديوننا؟
كانت القرى السورية، قبل 2011، تزدهر بثروة حيوانية كانت تمثّل أكثر من 40% من الإنتاج الزراعي، وتوظف 20% من القوى العاملة. اليوم، تحوّلت الحظائر إلى أماكن مهجورة، والبيوت الطينية التي كانت تبنى بجوار الزرائب انهارت، أو هجّرت، أو استبدلت بخيام. العمارة الريفية فقدت روحها، لأن الاقتصاد الذي كان يغذّيها تآكل، وذابت معه أشكال الحياة الريفية الأصيلة.
لم تعد الأبقار تُسمع في الفجر، ولم يعد حليب الماعز يُصبّ في دِلاء معدنية على عتبات البيوت. اختفت السلال القشية، وذبلت الورود التي كانت تنمو في ظلّ الإسطبل. وكل ذلك جرى في صمت، بينما كانت المواشي تُحمّل في السفن.
إنَّ تصدير المواشي ليس مسألة تجارية بحتة. إنه مرآة لوضع اجتماعي واقتصادي متشظٍّ، حيث تُصبح الثروة الحيوانية خطاً دفاعياً أخيراً في معركة البقاء. والمربّي الذي يبيع خروفه اليوم كي لا يُفلس، هو ذاته الذي قد يبيع بيته غداً. وحين يُصبح الوطن في حالة تصدير مستمرة ـ للحوم، للعقول، للأحلام ـ فإن السؤال الذي يطرح نفسه ليس اقتصادياً، بل وجودي: ما الذي سيبقى في الداخل حين يصبح كل ما هو حيّ، في الخارج؟
ربما لن تبقى سوى المراعي المهجورة، تسير فيها الريح وحدها، وتحرسها ذئابٌ لا تجد ما تفترسه.