شهدت العلاقات بين إيران وإسرائيل تقلبات حادة خلال العقود الماضية، بدأت بتحالف استراتيجي في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، وانتهت إلى مواجهة عسكرية مفتوحة تصاعدت بشكل كبير في ربيع وصيف 2025، وسط تحذيرات دولية من تصعيد شامل في الشرق الأوسط.
تعود الجذور التاريخية للعلاقات بين الفرس واليهود إلى ما قبل الميلاد، حين سمح الملك الفارسي كورش الكبير لليهود بالعودة إلى القدس بعد السبي البابلي، ما شكّل ذاكرة إيجابية بين اليهود تجاه الفرس.
في العصر الحديث، عارضت إيران قرار تقسيم فلسطين عام 1947، لكنها اعترفت بإسرائيل رسميًا في عام 1950، لتصبح ثاني دولة ذات غالبية مسلمة تفعل ذلك بعد تركيا.
تحالف النفط والاستخبارات في عهد الشاه
بعد انقلاب 1953 المدعوم من المخابرات الأمريكية، توطدت العلاقات بين إيران وإسرائيل. زودت إيران إسرائيل بنسبة كبيرة من نفطها عبر خط أنابيب “إيلات–عسقلان” كما تعاونت الأجهزة الاستخباراتية، حيث تأسس جهاز “السافاك” الإيراني بمساعدة CIA والموساد. في أواخر السبعينيات، نفذ الطرفان مشروعًا سريًا لتطوير صواريخ متقدمة.
بعد الثورة الإيرانية عام 1979، قطعت إيران علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، ووصفتها بـ”الشيطان الأصغر”. أُغلقت السفارة الإسرائيلية في طهران وسلم مبناها لمنظمة التحرير الفلسطينية.
رغم القطيعة، كشفت فضيحة “إيران-كونترا” عن تعاون سري في الثمانينيات، حيث زودت إسرائيل إيران بأسلحة خلال حربها مع العراق مقابل النفط ودفع أموال عبر أطراف ثالثة.
منذ التسعينيات، دعمت إيران فصائل مثل حزب الله في لبنان وفصائل المقاومة الفلسطينية، ما زاد التوتر مع إسرائيل. تحت حكم محمود أحمدي نجاد، تصاعدت الاتهامات بمحاولة إيران تطوير سلاح نووي، وأثار الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 معارضة إسرائيل الشديدة، التي اعتبرته تهديداً وجودياً.
شهدت الفترة الماضية اغتيالات استهدفت قيادات إيرانية، منها الجنرال قاسم سليماني والعالم النووي محسن فخري زاده، واتهمت طهران إسرائيل بالمسؤولية.
شارك الحرس الثوري الإيراني في دعم نظام بشار الأسد عسكرياً بسوريا، ما دفع إسرائيل إلى تنفيذ مئات الغارات الجوية لاستهداف المواقع الإيرانية وقيادات حزب الله، في محاولة لمنع التموضع الإيراني قرب الجولان.
في السابع من تشرين الأول 2023، نفذت حركة حماس هجوماً واسعاً ضد إسرائيل في عملية “طوفان الأقصى”، اتهمت تل أبيب إيران بدعم الفصائل المشاركة.
في 1 نيسان 2024، شنت إسرائيل ضربة جوية على القنصلية الإيرانية في دمشق، ما أسفر عن مقتل 7 ضباط من الحرس الثوري.
وردّت إيران في 13 نيسان بإطلاق أكثر من 300 صاروخ وطائرة مسيرة باتجاه إسرائيل، في هجوم واسع رغم اعتراض الدفاعات الإسرائيلية لمعظم الصواريخ، وشنّت تل أبيب بعد ذلك موجة غارات على منشآت في إيران وسوريا.
شنت إسرائيل هجمات سيبرانية وعسكرية استهدفت المنشآت النفطية والمرافئ الإيرانية، فيما ردّت إيران بهجمات صاروخية على قواعد إسرائيلية، أدت إلى غارات إسرائيلية على منشآت نووية ومراكز تصنيع مسيرات دقيقة في إيران.
مواجهة عسكرية مفتوحة
نفذت إسرائيل في 14 أيار الجاري عملية عسكرية واسعة حملت اسم “Rising Lion – الأسد الصاعد”، مع أكثر من مئات من الغارات الجوية والصاروخية استهدفت مواقع نووية وعسكرية إيرانية، بينما ردت إيران بإطلاق 150 صاروخاً باليستياً و100 طائرة مسيرة على أهداف إسرائيلية، مما أدى إلى تعليق الملاحة الجوية في مطار بن غوريون وإغلاق مطارات جنوب إيران، مع رفع حالة التأهب في دول الخليج والعراق ولبنان.
ودعت الأمم المتحدة والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى ضبط النفس ووقف التصعيد، فيما اعتبرت طهران العملية الإسرائيلية “إعلان حرب” وأعلنت استعدادها للرد بشكل أوسع إذا تكرر الهجوم.
الوكالة الدولية للطاقة الذرية حذرت من مخاطر كارثية في حال استهداف المنشآت النووية، ودعت إلى عدم إدخال البنية التحتية النووية في النزاع.
مقارنة شاملة بين الجيشين الإيراني والإسرائيلي
وأصدر موقع “جلوبال فاير باور” المتخصص في تصنيف الجيوش العالمية تقريره لعام 2024، الذي أظهر أن الجيش الإيراني يحتل المرتبة الـ14 عالمياً من بين 145 دولة، متفوقاً على الجيش الإسرائيلي الذي جاء في المرتبة الـ17.
وشملت المقارنة عدة عوامل إلى جانب القوة العسكرية التقليدية، مثل عدد السكان، المساحة الجغرافية، والاقتصاد، مما أتاح رؤية شاملة لأوضاع الجانبين.
ويبلغ عدد سكان إيران نحو 87 مليون نسمة، بينهم 49 مليون شخص يمثلون القوة البشرية المتاحة للخدمة العسكرية. في المقابل، يصل عدد سكان إسرائيل إلى حوالي 9 ملايين نسمة، مع قوة بشرية متاحة تقدّر بنحو 3.8 ملايين.
ويتفوق الجيش الإيراني في تعداد أفراده، حيث يضم إجمالي 960 ألف جندي، منهم 610 آلاف في الخدمة الفعلية، و350 ألفًا في قوات الاحتياط. بينما يضم الجيش الإسرائيلي 635 ألف جندي، منهم 170 ألفاً في الخدمة، و465 ألفاً في الاحتياط.
وتتفوق إسرائيل على إيران في القوة الجوية، حيث تمتلك 612 طائرة حربية، منها 241 مقاتلة، و39 طائرة هجومية، و12 طائرة شحن عسكري، إلى جانب 155 طائرة تدريب، و23 طائرة مهام خاصة، بالإضافة إلى 146 مروحية عسكرية منها 48 هجومية.
في المقابل، يملك الجيش الإيراني 551 طائرة حربية، تشمل 186 مقاتلة، و23 طائرة هجومية، و86 طائرة شحن عسكري، وأكثر من 100 طائرة تدريب، و10 طائرات مهام خاصة، بالإضافة إلى 129 مروحية عسكرية منها 13 هجومية. كما تمتلك إيران 319 مطاراً عسكرياً صالحاً للاستخدام، مقابل 42 مطاراً في إسرائيل.
يتفوق الجيش الإيراني بوضوح في القوة البرية، حيث يمتلك 1996 دبابة، و65,765 مركبة مدرعة، و580 مدفعاً ذاتي الحركة، و2050 مدفعاً ميدانياً متنوعة بين مدافع وقذائف هاون، إلى جانب 775 راجمة صواريخ.
بينما تمتلك إسرائيل 1370 دبابة، و43,407 مركبات مدرعة، و650 مدفعاً ذاتي الحركة، و300 مدفع ميداني، بالإضافة إلى 150 راجمة صواريخ.
وتشير الأرقام إلى تفوق إيران في المجال البحري، إذ يضم الأسطول الإيراني أكثر من 101 قطعة بحرية، منها 19 غواصة، و21 سفينة دورية، و7 فرقاطات، و3 طرادات. بينما يمتلك الأسطول الإسرائيلي 67 قطعة بحرية، منها 5 غواصات، و45 سفينة دورية، و7 طرادات، ولا تملك إسرائيل فرقاطات.
تحول في الصراع
مثلت الضربة الجوية الواسعة التي نفذتها إسرائيل ضد منشآت نووية وعسكرية داخل إيران تحولاً استراتيجياً في مسار الصراع بين الطرفين، وسط مخاوف من انزلاق المنطقة نحو مواجهة شاملة قد تعيد رسم توازنات القوى الإقليمية. الهجوم الذي استهدف مواقع يُعتقد أنها تشارك في تطوير القدرات النووية، أثار جدلاً واسعاً حول توقيته ودوافعه، في ظل رد إيراني محدود لم يرتقِ إلى مستوى التصعيد الإسرائيلي.
واعتبرت تطورات الساعات الأخيرة نقطة مفصلية في الملف النووي الإيراني، بعد أن تجاوزت إسرائيل حدود التهديد إلى التنفيذ العسكري المباشر، مستفيدة من واقع سياسي وأمني متغير على المستويين الإقليمي والدولي. العمليات استهدفت مواقع استراتيجية، من بينها منشآت تخصيب ومراكز أبحاث وأنظمة دفاع جوي، وأحدثت أضراراً ملموسة في البنية التحتية العسكرية الإيرانية.
وأمر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتنفيذ الهجوم بعد فترة طويلة من التلويح بالخطر الإيراني، في ظل تقارير تحدثت عن إخفاق طهران في الالتزام بتعهداتها النووية. العملية جاءت بعد انتهاء مهلة أعطيت لإيران من أجل العودة إلى المفاوضات، في مؤشر على أن الخيار العسكري أصبح أداة للضغط السياسي. الهجوم ارتبط أيضاً بسياق متصل من التنسيق غير المُعلن مع قوى دولية فاعلة، رغم التصريحات الرسمية التي نفت أي مشاركة مباشرة.
ولم يكن توقيت العملية منفصلاً عن الوضع السياسي الداخلي في إسرائيل، إذ جاء في وقت تواجه فيه الحكومة انتقادات متزايدة على خلفية ملفات فساد وأداء الحرب المستمرة في غزة. ورغم نجاح العملية في تحقيق صدى سياسي وإعلامي، تبقى تأثيراتها السياسية الداخلية غير محسومة.
والعملية العسكرية الإسرائيلية لم تكن ضربة تكتيكية محدودة، بل بدت كجزء من حملة منهجية تستهدف إضعاف القدرات النووية والعسكرية الإيرانية على المدى البعيد. المواقع التي جرى استهدافها شملت منشآت حيوية ومخازن أسلحة دقيقة ومقار قيادة، مما يعكس توجهاً واضحاً نحو فرض وقائع جديدة في الميدان، بعيداً عن منطق الردع المتبادل.
أما الرد الإيراني الذي أعقب الضربة تمثل بإطلاق عدد من الصواريخ باتجاه العمق الإسرائيلي، بعضها سقط في محيط تل أبيب، دون أن يُحدث أضراراً كبيرة. رغم نبرة التصعيد في الخطابات الرسمية الإيرانية، إلا أن طبيعة الرد الميداني عكست حسابات دقيقة لتفادي توسع رقعة المواجهة. التصريحات الرسمية ركّزت على “الاحتفاظ بحق الرد”، لكنها لم تترجم إلى تصعيد واسع النطاق، وهو ما اعتُبر إشارة على حرص طهران على احتواء التصعيد وعدم الانجرار إلى حرب مفتوحة.
ورسخ الهجوم الإسرائيلي من جديد تفوّق إسرائيل في المجالين العسكري والاستخباراتي، وأظهر أن إيران، رغم تعاظم قدراتها، ما تزال عاجزة عن خوض حرب تقليدية واسعة مع خصم يملك تفوقاً جوياً وتقنياً كبيراً. الفجوة في موازين القوى أضعفت من قدرة إيران على فرض معادلة ردع متكافئة، ما يفتح المجال أمام مزيد من الضغوط السياسية والعسكرية خلال الفترة القادمة.
كما بدت المواقف الدولية منقسمة، حيث أبدت بعض القوى الغربية تفهماً لما وُصف بـ”حق الدفاع عن النفس”، بينما اتسم موقف قوى أخرى بالتحفظ والدعوة إلى التهدئة. في المقابل، لم تُسجّل تحركات حاسمة في مجلس الأمن الدولي، ما يعكس تردداً في تحويل التصعيد إلى ملف دولي فاعل حتى اللحظة.
صدامات واسعة
وتُجمع التحليلات على أن الضربة الإسرائيلية قد تكون بداية لتحول أكبر في المشهد الإقليمي، وربما مقدمة لصدامات أوسع إذا لم يتم احتواؤها سياسياً. ما جرى لا يُختزل في كونه عملية عسكرية ناجحة، بل يندرج في إطار إعادة رسم معادلات الردع، وقد يؤدي إلى فتح أبواب مرحلة جديدة من الصراع، في ظل غياب أفق تفاوضي واضح بين الطرفين. الأيام القادمة ستكشف ما إذا كان الطرفان سيختاران التصعيد، أو سيتجهان إلى جولة جديدة من التهدئة الهشة.
من تحالف استراتيجي إلى صراع مفتوح، تعكس العلاقات الإيرانية الإسرائيلية تقلبات حادة تعكس التغيرات الكبرى في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. تصاعد المواجهات العسكرية المباشرة في 2024 و2025 يشكل نقطة حرجة قد تؤدي إلى تحول جذري في أمن واستقرار المنطقة.