لكل السوريين

اللامركزية الديمقراطية في سوريا ضرورة تاريخية لإعادة بناء الدولة والمجتمع بعد عقود من السلطوية

إعداد/ سلاف العلي

تواجه سوريا اليوم تحدياً تاريخياً ووجودياً غير مسبوق، يتمثل في إعادة بناء دولة ممزقة ومجتمع مكلوم بعد سنوات من الحرب والصراع والسلطوية الشديدة. وفي خضم هذا الواقع المعقد، تبرز اللامركزية الديمقراطية كخيار لا بديل عنه لإعادة تأسيس العلاقة بين المواطن والدولة على أساس المشاركة والعدالة، وذلك بعد أن فشل النظام السوري السابق، المعروف بسلطويته المطلقة، في تحقيق أي شكل من أشكال الحكم الرشيد أو التشاركي.

فالنظام السوري الذي سقط نتيجة الانتفاضة الشعبية والحرب، كان من أشد الأنظمة سلطوية في منطقة الشرق الأوسط، إن لم يكن أشدها على الإطلاق، حيث تفوّق في قمعه على جميع الأنظمة المجاورة. هذه السلطوية الصارمة لا يمكن أن تتوافق مع فكرة اللامركزية بأي شكل، إذ إن اللامركزية تتطلب بالضرورة نقلاً فعلياً للسلطة من المركز إلى المناطق، وهو ما يُعد مستحيلاً عملياً في ظل نظام قائم على احتكار السلطة والاستبداد.

إن المجتمع السوري، في لحظته الراهنة التي تتسم بانهيار مؤسسات الدولة الوطنية إلى درجة تقترب من العدم، بات في أمسّ الحاجة إلى إعادة صياغة العقد الاجتماعي على أسس جديدة، تكون اللامركزية فيها عنصراً جوهرياً. ويزداد الأمر تعقيداً وخطورة مع تصاعد التحديات التي تواجه وحدة الأراضي السورية وسيادتها، في ظل سياق إقليمي مضطرب يعزز هذه المخاطر.

ورغم هذه الضرورة، فإن صياغة استراتيجية وطنية شاملة للامركزية لا تزال تواجه تحديات كبيرة، أبرزها الغياب التام لرؤية واضحة لنظام الحكم الجديد الذي سيقود البلاد في المرحلة المقبلة. فالواقع السوري يتميز بتعقيدات وتشابكات سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية، ما يجعل من الصعب تصور نموذج للامركزية يناسب هذا المشهد دون وجود توافق سياسي ووطني واسع.

وفي هذا السياق، يشكّل تضمين رؤية متكاملة للامركزية ضمن الدستور السوري الجديد جزءاً لا يمكن الاستغناء عنه من أي نهج عقلاني لإدارة مرحلة ما بعد النزاع. فبالإضافة إلى كون اللامركزية وسيلة فعّالة لتحقيق التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية، فقد أثبتت تجارب عديدة حول العالم أن اعتمادها يساعد في إدارة التنوع المجتمعي والاعتراف بالهويات المحلية، من خلال توسيع صلاحيات الحكم المحلي.

ويشدد مراقبون على ضرورة اعتماد ضمانات مسبقة قبل الشروع في تنفيذ هذا النموذج، وذلك من خلال آليات تشاورية شاملة تشارك فيها جميع الأطراف والمكونات السورية، على أن تُفضي هذه المشاورات إلى اتفاقات واضحة حول المبادئ الأساسية، ثم إلى تحديد المواصفات التقنية لتطبيق هذه المبادئ عمليًا على أرض الواقع.

وفيما يتعلق بالتحديات المرتبطة بتطبيق اللامركزية، يبرز نوعان رئيسيان من التحديات:

التحدي الأول: يتمثل في الوصول إلى اتفاق وطني جامع حول الهدف الأساسي لطبيعة النظام اللامركزي الذي سيتم تضمينه في الدستور الجديد.

التحدي الثاني: يتجلى في كيفية تصميم وتنفيذ مسار آمن لتحقيق هذا الهدف، وذلك من خلال ثلاث مراحل مترابطة تبدأ كل منها بعد إنجاز السابقة:

  1. الاتفاق على المبادئ العامة التي ستحكم اللامركزية.
  2. تعريف النموذج التفصيلي الذي سيتبعه النظام اللامركزي.
  3. وضع الأدوات والضمانات التنفيذية الكفيلة بتحقيق ما تم الاتفاق عليه فعلياً على الأرض.

ويرى خبراء أن السوريين سيحتاجون إلى الاستفادة من التجارب المقارنة في بلدان أخرى مرّت بظروف مشابهة، من أجل تقليص حجم المخاطر أثناء تطوير وتنفيذ النموذج السوري الخاص باللامركزية. ويؤكدون في هذا السياق على أهمية أن تكون النصوص الدستورية المتعلقة باللامركزية دقيقة ومفصلة قدر الإمكان، فكلما زادت دقة النص، كلما قلت مساحة التأويل والاجتهاد لدى الحكومات والمشرعين، وبالتالي أصبح من الصعب تقليص صلاحيات السلطات المحلية أو تجاوزها من قبل المركز.

كما يلفت المتخصصون إلى أن الاحترام الحقيقي لمبدأ المساواة بين المواطنين يتطلب أكثر من مجرد إصلاح إداري، بل يستدعي إعادة هيكلة شاملة في البيئة القانونية والمدنية، على رأسها الاعتراف بحق أي مواطن أو مواطنة في اللجوء إلى القانون المدني بدل قوانين الأحوال الشخصية القائمة على الانتماءات المذهبية أو الطائفية. إلى جانب ذلك، يجب أن يكفل الدستور الجديد الحقوق الجماعية للمكونات المجتمعية، لا سيما تلك التي عانت من التهميش والإقصاء خلال العقود الماضية.

وفي إطار إعادة بناء هيكل الدولة السورية، قد يتفق السوريون على إعادة ترسيم الوحدات الإدارية الحالية، بل وتغيير تقسيم المحافظات نفسه. لكن الخبراء يشددون على أن أي تغيير إداري يجب أن يتم استناداً إلى معايير جغرافية وتنموية وليس على أساس عرقي أو ديني. ويجب أن يُراعى في هذا الإطار مبدأ التوزيع العادل للموارد الطبيعية، وتحقيق التنمية المتوازنة بين المناطق المختلفة. كما يعد تشكيل المجالس المحلية عن طريق الانتخابات الحرة المباشرة ركيزة أساسية لإرساء شرعية شعبية لهذه المجالس، وهو ما يشكل شكلاً مباشراً من أشكال اللامركزية السياسية.

ومن جهة أخرى، أدت سنوات النزاع والنزوح الجماعي من مناطق بأكملها إلى تعقيدات كبيرة في ملف الملكية والممتلكات. ويقترح متخصصون إنشاء هيئة انتقالية خاصة تتعاون مع المجالس المحلية في كل منطقة لإدارة ملفات العودة واسترداد الحقوق والممتلكات. ورغم أن مثل هذه القضايا تندرج ضمن برامج العدالة الانتقالية عادة، إلا أنه لا بد من أن تكون هذه الملفات خاضعة للمساءلة الكاملة، وأن تُدرج في سياق التفاوض الوطني حول اللامركزية، لما لها من قدرة على تفجير ملايين القضايا الخلافية في المستقبل إذا لم تُحل بطريقة عادلة وشفافة.

ولا يغيب عن المراقبين أن مسار اللامركزية في سوريا سيكون محفوفاً بالتحديات، نظراً للواقع الأليم الذي تمر به البلاد، إذ أن الدولة باتت محطّمة إلى حد كبير، وقد فقدت جانباً كبيراً من سيادتها الفعلية، في حين يعاني المجتمع من آثار التمزق والتهجير والانقسام. ومع ذلك، فإن السوريين بمختلف أطيافهم يتطلعون إلى تأسيس مواطنة ديمقراطية حقيقية يتمتع بها جميع الأفراد على قدم المساواة.

إن ما عاشه السوريون طوال الخمسين سنة الماضية من فساد سياسي واجتماعي ممنهج، وقمع للمبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة الحديثة، يستدعي اليوم إصلاحاً جذرياً. وبعد هذه التجربة الطويلة من الحكم الشديد المركزية، فإن الانتقال إلى نظام لامركزي ناجح سيكون عملية طويلة الأمد تتطلب تغييرات عميقة على مستوى الثقافة السياسية، ليس فقط بين المواطنين العاديين، بل حتى بين النخب السياسية والفكرية نفسها.

ولهذا، فإن بناء هذا النموذج يستدعي تكييف المناهج التعليمية، وإطلاق برامج ثقافية وإعلامية جديدة تساهم في تعزيز ثقافة المشاركة والحقوق والمساءلة. ورغم أن الطريق مليء بالمخاطر، إلا أن هذا النموذج يشكل أفضل مدخل متاح لإعادة تعريف المعادلة السياسية السورية بعد انهيارها، وهو ما سيمكّن السوريين في نهاية المطاف من استعادة هويتهم الوطنية الجامعة، وبناء مستقبل مشترك قائم على العدل والمساواة والديمقراطية.