لكل السوريين

سوّي بالأرض… هذا ما فعله نافذون في النظام السوري في حي القابون الدمشقي

مع سقوط نظام الأسد، انكشف للعالم حجم الدمار الكبير في حي القابون الدمشقي الذي كان خلال سنوات الثورة السورية مركزا لمظاهرات العاصمة، مناديا بالحرية والكرامة.

وكان نظام الأسد قد عاقب سكان القابون بالتهجير القسري بعد احتضان حيهم أضخم مظاهرات دمشق، حيث أجبرهم على مغادرة منازلهم عام 2017، وباشر بعد ذلك بحملة هدم منهجية للمباني، سواء كانت مرخصة أو مبنية بشكل عشوائي.

وتظهر جولة في الحي تحوّل المنازل إلى كومة من الركام، في واقع أفقد الأهالي جزءا كبيرا من فرحتهم بسقوط نظام الأسد وهروب رئيسه إلى موسكو. وتؤكد صور الأقمار الصناعية واللقطات الجوية التي وثقها الناشطون أن عمليات الهدم هذه طالت معظم مباني الحي، حيث تم تسوية جميع المنازل الواقعة جنوب ووسط وشرق الحي بالأرض بشكل كامل.

ويظهر بوضوح من خلال أدوات تحليل الخرائط أن الهدم لم يكن نتيجة للمعارك فقط، بل كان جزءا من عملية جرت بعد السيطرة على الحي، في حين أن الصور تشير إلى أنّ المنازل كانت تختفي من الخريطة اعتبارا من عام 2018 إلى عام 2022.

وأكد مهندس مدني مقيم في القابون أن الجزء الأكبر من عقارات حي القابون تم تسويته بالأرض بعد سيطرة جيش النظام على الحي وتهجير سكانه، وأضاف أن “النظام برر عمليات الهدم بالادعاء أن المنطقة كانت تضم مخالفات، وأن الهدم يأتي ضمن مشروع إعادة تنظيم المنطقة وتحويل الحي إلى منطقة حديثة ومنظمة، فكان هذا هو المبرر الظاهري الذي تم تقديمه”.

ولكن المهندس يرى أن الهدف الحقيقي من هذه العمليات كان أبعد من ذلك بكثير، فقد اعتبر أن “الهدم كان في جوهره عملية انتقام من سكان الحي بسبب تأييدهم للثورة السورية ومشاركتهم في المظاهرات التي طالبت بإسقاط النظام، معتبرا هذه العمليات محاولة واضحة لإحداث تغيير ديمغرافي في المنطقة”.

وكان رئيس النظام المخلوع بشار الأسد أصدر بتاريخ 14 أيلول 2021 المرسوم رقم (237)، الذي نص على إحداث “مناطق تنظيمية” في مدخل دمشق الشمالي، بما يشمل حي القابون وحرستا وذلك استنادا إلى المخطط التنظيمي التفصيلي رقم (104)، الصادر في حزيران 2019، والذي يغطي مساحة ضخمة تصل إلى 200 هكتار (2 مليون متر مربع).

ويقضي هذا المخطط بهدم أكثر من 70 في المئة من مساحة حي القابون، وإعادة تنظيم المنطقة لإقامة أبراج سكنية وتجارية وخدمية، إلى جانب مشافٍ ومدارس ومراكز استثمارية.

واعتمد المرسوم رقم (237) على قوانين متعددة، أبرزها القانون رقم 10 لعام 2018، الذي يحول الملكيات العقارية إلى أسهم شائعة مما يسمح بنزع الملكيات من أصحابها وتحويلها إلى مشروعات استثمارية من دون الحاجة إلى موافقة مسبقة من المالكين، ورغم أن المرسوم لم يذكر القانون رقم 10 صراحة، إلا أن الإجراءات المتبعة تُظهر ارتباطه الوثيق بهذا القانون.

كما يستند المخطط التنظيمي إلى القانون رقم 23 لعام 2015، الذي يسمح للوحدات الإدارية باقتطاع نسب من الأراضي المنظمة لإقامة مرافق عامة، مثل الحدائق والمشافي.

ويظهر المرسوم رقم 237 بوضوح كيف استغل النظام السوري القوانين والمراسيم لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية، أبرزها قوننة السيطرة على حي القابون وتهجير سكانه، وفقا لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”.

وبينما روج النظام للمخطط التنظيمي على أنه بهدف تحويل القابون إلى منطقة حديثة، فإنه مثّل لسكان الحي مشروعا لطمس هويتهم وتدمير حقوقهم وخاصة أنّ وقت الإعلان عن هذا المشروع ترافق مع اشتداد الأزمة الاقتصادية على نظام الأسد، إذ تساءل السكان كيف يمكن تغطية نفقات هدم وبناء حي بأكمله في وقت يعجز النظام عن تأمين الخدمات الأساسية للسكان من كهرباء ووقود.

وفيما يتعلق بتفاصيل عمليات الهدم، أوضح المهندس أن “الهدف الأساسي في البداية سرقة الحديد وأبواب ونوافذ المنازل، أكثر من كونها عملية تنظيمية أو إعادة إعمار”، وأن “المسؤول الأول عن هذه العمليات كان رجل الأعمال محمد حمشو، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة المسيطرة بشكل كامل على المنطقة بعد تهجير سكانها، مما أتاح لمحمد حمشو تنفيذ هذه الأنشطة ضمن غطاء أمني مباشر”.

وأضاف أن “هناك تسريبات تحدثت لاحقا عن نقل الإشراف على الأعمال في القابون من محمد حمشو إلى المدعو أبو علي خضر وشركته”.

وكان موقع صوت العاصمة أكد في تقرير المعلومات المتناقلة تلك مشيرا إلى أنّ شخصيات نافذة مرتبطة بالنظام السوري لعبت أدوارا محورية في استغلال تجارة الأنقاض والمعادن الناتجة عن هدم المنازل، خصوصا في مناطق مدمرة مثل حي القابون، لافتا إلى أن من بين أبرز المتورطين، ظهر اسم محمد حمشو وخضر علي طاهر (أبو علي خضر) كمستفيدين رئيسيين من هذه التجارة.

وأوضح التقرير أن حمشو عمل على استخراج المعادن من الأنقاض وتحطيم الهياكل الإنشائية للحصول على الحديد المستخدم في التسليح، فضلًا عن المواد الأخرى كالألمنيوم والنحاس، وتمت هذه الأنشطة بالتنسيق مع جهات نافذة، من بينها الفرقة الرابعة، التي سهلت عمليات النقل والتنقيب مقابل حصة من الأرباح.

ولاحقا، صعد خضر علي طاهر ليصبح الوجه الجديد في إدارة تجارة الأنقاض. والذي استحوذ على كامل قطاع الخردوات والمعادن. تحت غطاء شركة أسسها لهذا الشأن وحملت اسم “الشركة السورية للمعادن والاستثمار”، وأصبحت واجهة قانونية لأعماله.

ولاستكمال عمليات الهدم، عمد خضر إلى عرقلة عودة السكان إلى مناطقهم، كما حدث في القابون، إذ اشترطت الأجهزة الأمنية حصول السكان على موافقات للعودة والتي كانت تأتي في معظم الحالات بالرفض، مما أتاح الوقت الكافي لاستخراج جميع الموارد من المباني، وفقا لصوت العاصمة.

وبشأن ملكيات العقارات في القابون، لا ينفي المهندس وجود خطر ما زال يهدد حقوق السكان الذين تهدمت منازلهم في القابون، خصوصا أولئك الذين لا يمتلكون أوراقا رسمية تثبت ملكيتهم للعقارات، لأنه يرى أن “أي مخطط تنظيمي جديد سيستند بشكل أساسي إلى السجلات العقارية (الطابو) الرسمية لإثبات الملكيات. وبالتالي، فإن الأشخاص الذين لا يملكون سوى أوراق غير رسمية، مثل أحكام محاكم أو عقود غير مسجلة، يواجهون خطرا حقيقيا بفقدان حقوقهم العقارية”، لافتا إلى أن العديد من سكان القابون كانوا يعتمدون على صيغ ملكية غير رسمية نتيجة لتعقيدات الإجراءات العقارية.

وأشار إلى أن “غياب الحلول القانونية لحماية حقوق هؤلاء ربما يؤدي إلى إجحاف كبير بحقهم، خاصة في ظل عدم وجود جهة موثوقة إلى الآن لضمان العدالة في توزيع الأراضي وإثبات الملكيات”.