تحمل الذاكرة الجماعية للشعوب المنكوبة في الشرق الأوسط فصولاً مأساوية من المجازر والانتهاكات التي امتدت عبر عقود، حيث كانت الدولة العثمانية ومن بعدها تركيا الحديثة، فاعلين رئيسيين في ارتكاب انتهاكات ممنهجة ضد هذه الشعوب. ما تزال هذه الجرائم حية في ذاكرة الأرمن والسريان والآشوريين والكرد والعرب، خاصة في ظل استمرار الانتهاكات في شمال وشرق سوريا، حيث لم تتوقف سياسة القتل والتهجير حتى يومنا هذا.
جذور العنف العثماني… مجازر ممنهجة بحق الأرمن
في عام 1915، بدأت الدولة العثمانية واحدة من أكبر حملات الإبادة الجماعية في القرن العشرين، مستهدفة الشعب الأرمني، تحت ذريعة الحفاظ على الأمن القومي في ظل الحرب العالمية الأولى. تشير التقديرات إلى أن أكثر من 1.5 مليون أرمني قُتلوا خلال هذه الحملة، فيما تم تهجير مئات الآلاف قسراً نحو الأراضي السورية، حيث مات الكثيرون عطشاً وجوعاً، أو تعرضوا للقتل على أيدي الجنود العثمانيين أو الميليشيات المحلية الموالية لهم.
السريان والآشوريون: الإبادة المنسية
بالتوازي مع المجزرة الأرمنية، تعرض السريان والآشوريون لمجازر مروعة على يد العثمانيين، تم تدمير قرى بأكملها وقتل عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال. تشير المصادر التاريخية إلى أن ما لا يقل عن 300 ألف من السريان والآشوريين قتلوا أو هُجروا خلال هذه الفترة، فيما عُرفت هذه الحملة باسم “سيفو”، أي السيف، في إشارة إلى الإبادة التي مورست بالسلاح الأبيض في كثير من الأحيان.
من المؤسف أن هذه المجازر لم تحظَ بالقدر ذاته من الاعتراف الدولي الذي حظيت به مجازر الأرمن، رغم تشابه السياقات والنتائج. إلا أن الذاكرة الحية للمجتمعات السريانية والآشورية في سوريا والعراق ما تزال تنقل مآسي تلك الفترة جيلاً بعد جيل.
لم يقتصر القمع العثماني على الطوائف الدينية والمكونات العرقية غير المسلمة، بل طال أيضاً القوميين العرب، وخاصة في بلاد الشام. فقد شهدت دمشق وبيروت حملات اعتقال وإعدام جماعية لرموز الحركة القومية العربية، فيما عُرف بـ”شهداء 6 أيار”، حيث تم شنق عشرات المثقفين والسياسيين أمام الجماهير لترهيبهم. كانت هذه الحملة واحدة من أوجه القمع العثماني لكل من طالب بالحرية أو حاول الحفاظ على هويته العربية والثقافية.
إرث المجازر من العثمانية إلى تركيا الحديثة
رغم سقوط الدولة العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى، فإن تركيا الحديثة، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك ومن خلفه الأنظمة المتعاقبة، لم تتنصل من إرث العنف والقمع. على العكس، عملت على طمس الحقائق ورفضت الاعتراف بالإبادة الأرمنية والسريانية، بل وواصلت في بعض الأحيان سياسات التهديد والإنكار. في السنوات الأخيرة، باتت تركيا تتدخل بشكل مباشر في الشأن السوري، عبر عمليات عسكرية في الشمال والشرق، تحت ذرائع أمنية واهية.
منذ عام 2018، ومع بدء التدخل العسكري التركي في شمال سوريا، تكررت مشاهد العنف والتهجير ضد السوريين من جديد. ففي عفرين، رأس العين، وتل أبيض، تعرض السكان الأصليون من الكرد والعرب والسريان للتهجير القسري، وجرى استقدام عائلات موالية لتركيا لإعادة تشكيل التركيبة السكانية، في ما يصفه مراقبون بأنه شكل جديد من أشكال التطهير العرقي.
ووثّقت منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية مئات الانتهاكات، من بينها اغتصاب النساء، تدمير الكنائس والمعابد، الاستيلاء على الأملاك، وتعذيب المعتقلين في سجون مرتزقة تركيا. وأكدت تقارير الأمم المتحدة أن هذه الأفعال قد ترقى إلى جرائم حرب.
رغم بعض التحركات الدولية التي تدعو تركيا لوقف انتهاكاتها في سوريا، إلا أن الردود غالباً ما كانت خجولة ومحدودة التأثير. فلم يتم فرض عقوبات جدية على أنقرة، ولم تتم محاسبة أي من قادة الفصائل الموالية لها. وبدلاً من ذلك، تستمر تركيا في استغلال نفوذها الجيوسياسي، وخاصة ضمن حلف الناتو، لتجنب أي مساءلة حقيقية.
ويُجمع باحثون ومؤرخون على أن أي محاولة لبناء مستقبل مستقر في سوريا والمنطقة لا يمكن أن تتحقق دون مواجهة الماضي، والاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها الإمبراطوريات والدول، وفتح ملفات الإبادة والتهجير والانتهاكات. كما يجب أن تُمنح الشعوب حقها في العدالة وجبر الضرر، سواء عبر الاعتراف السياسي، أو إعادة الحقوق، أو حتى التعويضات المادية والمعنوية.
في هذا السياق، تبرز أهمية دور الإعلام والمجتمع المدني والمؤرخين في توثيق هذه الجرائم، ومواصلة الضغط على الدول والمنظمات للاعتراف بها. إن ما حدث ليس مجرد صفحات من التاريخ، بل هو واقع مستمر، يُعيد إنتاج نفسه بأشكال جديدة في كل أزمة تمر بها المنطقة.
إن مجازر الأرمن والسريان والآشوريين والعرب والكرد ليست جزءًا من الماضي فحسب، بل هي صرخة ممتدة في وجه الظلم والإفلات من العقاب. وما لم يتم العمل الجاد على مساءلة الجناة، وضمان حقوق الضحايا، فإن خطر تكرار هذه المجازر سيبقى ماثلاً، وسيستمر شبح الإبادة يحوم فوق شعوب الشرق الأوسط. المطلوب ليس فقط العدالة، بل ضمانة مستقبلٍ لا يُبنى على جماجم الضحايا بل على حقهم في الحياة، والكرامة، والحرية.
تركيا في الساحل السوري
في تطور خطير يعكس حجم الانخراط التركي في النزاع السوري، ظهرت أدلة جديدة على دعم أنقرة لفصائل مسلحة متورطة في ارتكاب مجازر دموية بحق المدنيين في الساحل السوري، خصوصاً من أبناء الطائفة العلوية، في ظل غياب أي موقف رسمي تركي يدين هذه الجرائم.
تتحمل تركيا المسؤولية المباشرة عن المجازر التي تُرتكب في الساحل السوري، حيث تعمل بعض الفصائل المسلحة تحت إمرة الجهات التركية، ولا يزال الصمت الرسمي التركي قائماً حيال هذه الانتهاكات، رغم فظاعتها. لم يصدر أي بيان تركي يدين ما يحدث، ما يعزز من الاتهامات بأن أنقرة متورطة بشكل مباشر أو غير مباشر في هذه العمليات.
تستمر بعض الفصائل المسلحة في تنفيذ عمليات عسكرية في المناطق العلوية، حيث تعرضت العديد من القرى للاقتحام من قبل هذه الجماعات، التي تقوم بإحراق المنازل وقتل المدنيين وتهجيرهم. هذه العمليات أسفرت عن مواجهات مع قوى الأمن السورية التي حاولت منع تقدم هذه الفصائل، ما أدى إلى تصاعد العنف في المنطقة.
إضافة إلى ذلك، تكشف المعلومات عن تورط فصائل مسلحة في تنفيذ عمليات سريعة وغير معلنة في الساحل السوري، لم يسمع بها الكثير من الأشخاص إلا بعد وقوعها. هذه العمليات تستهدف المدنيين بشكل رئيسي، في وقت تحاول فيه بعض الجهات الدولية تصوير الهجمات على أنها تستهدف “فلول النظام السوري”.