عبد الكريم البليخ
بعد أن خفت صوت القطارات لسنوات، يتطلع السوريون، بقلوبهم المثقلة بالتعب، إلى عودة ذاك المدى الحديدي، حيث تمتد القضبان كشرايين تحمل الأمل في زمنٍ ما بعد العتمة.
لقد ألقى التوقف القسري لشبكة الخطوط الحديدية، بفعل الحرب، بظلاله القاتمة على حركة الاقتصاد والتجارة، وعمّق من عزلة المجتمعات التي كانت تستند إلى تلك الخطوط كوسيلة وصل وحياة. إلا أنّ التحرير الذي طال مساحات واسعة من الجغرافيا السورية، أعاد إلى السطح أحلامًا مؤجلة، وعلى رأسها حلم إعادة نبض هذه الشبكة إلى الجريان.
فالسكك الحديدية في سوريا ليست مجرّد وسيلة نقل، بل مشروع وطني استراتيجي، يُعدّ ضرورة في مرحلة إعادة الإعمار، وشريكًا فاعلًا في تحريك عجلة الاقتصاد المتوقفة. إنها رافعة للتنمية، وممرّات صامتة لمداواة الجراح، من خلال إعادة الحياة لمراكز الإنتاج، والمناطق الصناعية، وربط المدن والمرافئ، وتفعيل سبل نقل الموارد الأساسية التي تنهض بها الأوطان من تحت الرماد.
ورغم الظروف القاسية، فإن جهودًا تُبذل بصمت من خلف الجدران، حيث تعمل مؤسسة الخطوط الحديدية، في ظل شحٍّ بالغ في الموارد، على ترميم ما يمكن ترميمه، وصيانة ما بقي من قاطرات وقطع غيار، وسط سوق محليّة شبه خاوية، ومراكز صيانة مدمّرة أو منهوبة. لقد أُنجز إصلاح ما يزيد على ألف كيلومتر من أصل أكثر من ألفين وخمسمئة، مع الإشارة إلى أنّ تكلفة الكيلومتر الواحد قد تتجاوز عشرين مليار ليرة، ما يكشف عن حجم التحدي الماثل أمام دولة تقف على حافة التعافي.
ولم تخلُ هذه المسيرة من العثرات؛ فقد كانت يد السرقة والعبث حاضرة أثناء فوضى الانهيار، حيث استُهدفت مستودعات المؤسسة ومراكزها الحيوية، مما زاد من تعقيد المشهد وأثقل كاهل العاملين الذين واصلوا الليل بالنهار لإنعاش قاطرات معطّلة، وإعادة تشغيل عدد محدود من رؤوس القواطر في وقتٍ تراجع فيه المخزون إلى الصفر.
وفي هذا السياق، يبرز صوت أحد الخبراء، داعياً إلى الإسراع في تأهيل الخط الحيوي الرابط بين حلب وحمص ودمشق، بما يمثّله من محور اقتصادي وحضاري، واستكمال تجهيزاته ورفع القيود التقنية التي تحدّ من سرعته وكفاءته. كما شدد على أهمية تأمين الكوادر اللازمة لتشغيل المحطات وحراسة الممرات، لضمان أمان حركة القطارات، خصوصاً للركاب.
ويستمر الحلم في التفرّع، كأغصان زيتون تمتد في وجه الخراب؛ فثمة خطوط تُحيى لنقل الفوسفات من المناجم إلى المصانع والموانئ، وتفريعات جديدة رُبطت بالمقالع الحصوية، وأُنشئت محطات تفريغ في طرطوس وبانياس واللاذقية، في خطوة تحمل دلالة على تفعيل التوازن بين الداخل والساحل، بين مصادر الإنتاج ومنافذ التصدير.
أما المدن الصناعية، فهي الأخرى تُستعاد من أطلالها، وتُربط شيئاً فشياً بالشبكة الحديدية لتستعيد دورها في تدوير عجلة الاقتصاد. فالمرافئ الجافة في دمشق وعدرا، والتفريعة من خنيفيس إلى حسياء، ومشروع الضمير، كلّها محطات في رحلة الأمل، تعكس وعياً مؤسسياً بأهمية الربط بين البحر والصحراء، بين المواد الأولية ومراكز التصنيع، في منظومة متكاملة تعيد لسوريا موقعها كدولة وصل لا فصل.
إن تفعيل قطاع النقل السككي ليس مجرد مشروع هندسي أو تقني، بل فعل مقاومة ضد التهميش، وضد النسيان. هو قصة وطن يريد أن يسمع صافرة القطار من جديد، لا كذكرى بل كنبض يومي.