طرطوس/ اـ ن
مع دخول ساعات المساء في قرى ريف بانياس وريف القدموس، يتسلل البعوض من النوافذ ويملأ الغرف المغلقة بحيطانها المحترقة المهترئة، وتتحول الليالي الربيعية إلى معركة يومية يخوضها الأهالي عزل دون أسلحة الا من الكشاشات المصنوعة من أوراق الأشجار، ولم تعد الحشرات الطائرة والزاحفة مجرد إزعاج موسمي ويومي، بل أصبحت ظاهرة صحية مقلقة تتفاقم يوما بعد يوم، تمس الصحة العامة بشكل مباشر في ظل تردي الظروف الحياتية وتدمير مقومات الحياة الأساسية، وتزيد قسوة ظاهرة انتشار البعوض ومختلف أنواع الحشرات الطائرة والزاحفة في المدارس والبيتوتات التي تضم مئات آلاف من العائلات الفقيرة والمعدومة والجياع، الذين فقدوا الكثير من مقومات العيش الكريم ويعيشون في ظروف معيشية وامنية وبيئية وصحية متزايدة التدهور.
تشير اعترافات المواطنين او الضحايا في هذه القرى إلى انتشار كثيف لأسراب البعوض في مختلف أنحاء القرى، خصوصا في المناطق المهملة والتي ينتشر فيها الفقر والاوساخ، ومحيط برك تجميع المياه، والحارات والبيوت المكتظة، والشوارع سيئة التصريف والغارقة في سيول المياه العادمة وأكوام القمامة. وتتشابك الأسباب خلف تفاقم الأزمة التي باتت تؤرق صباح وليل السكان بفعل انتشار أكوام القمامة في الشوارع وأطراف القرى، نتيجة نقص العمال والوقود والآليات المخصصة لإزالتها، ما يتسبب بتحول تلك الأماكن إلى بؤر خصبة لتكاثر الحشرات والفئران والجرذان، بينما ترجع البلديات عجزها عن التعامل مع الأزمة إلى الظروف الأمنية الخطيرة ونقص الإمكانيات.
وفي الكثير من القرى، تؤدي سيول الصرف الصحي المكشوفة إلى تدفق مياهها إلى الأحياء والشوارع والحارات بفعل الانهيار المتكرر لشبكات التصريف التي تضررت خلال الازمة المتواصلة، ما يجعل تلك البرك الراكدة بيئة مثالية لبيض البعوض، حيث تعرضت البنية التحتية في القرى والنواحي والمناطق ، لتدمير ممنهج ثأري وعدواني وطائفي، والذي أدى بدوره الى عدم توفر الإمكانات وعدم قدرة البلديات على تشغيل مشاريع مكافحة الحشرات أو صيانة خطوط الصرف ومحطات المعالجة جراء الانقطاع التام في التيار الكهربائي، علاوة على ان انقطاع الكهرباء الدائم، الذي يتسبب في عدم قدرة السكان على تشغيل المراوح أو الأجهزة الطاردة للبعوض، في الوقت ذاته، يعجز الفنيون عن تشغيل معدات رش المبيدات أو شفط المياه، وسط نقص حاد في المبيدات والموارد التي تستخدمها البلديات، مع الخوف الدائم من ارتفاع حالات الالتهابات الجلدية والامراض المعدية وحساسية الأطفال في القرى المنكوبة.
السيدة وصال العلي ، ام جعفر من قرى ريف بانياس تقول: أطفالي لا ينامون أكثر من ساعتين، أجسادهم مغطاة بالقرصات، والحك والحرش بأظافرهم، على جلدهم، وتضيف: نحاول إشعال الفحم، نرش الخل، نغلق النوافذ، لكن كل شيء بلا فائدة، الكهرباء مقطوعة، والمراوح لا تعمل، وتؤكد إلى فشل كل المحاولات الخاصة برش المبيدات التي يتم بيعها في الأسواق، إذ إن فاعلية تلك المواد ضعيفة بفعل رداءة الإنتاج وعدم قدرتها على مواجهة الأسراب الكثيفة للحشرات الطائرة والمزعجة، موضحة أن إغلاق الشبابيك في ظل ارتفاع درجات الحرارة يزيد في الازعاج، خاصة في ظل عدم القدرة على تشغيل المراوح، وجميعنا لا يمتلك أسلحة فعالة في وجه جيوش البعوض والناموس والذباب وغيرها من الحشرات.
السيدة ام جعفر تعيش مع أسرتها المكونة من أربعة أفراد بنات صغيرات لم يتم قتلهن، بعد أوائل اذار الدامية، في داخل بيت تعرض للحرق والنهب والتكسير وقتل كل الشباب فيه، وكعائلة أصبحت همومهم ومعركتهم اليوم مع الحشرات، والتي تشتد مع حلول ساعات المساء، حيث تقوم بتغطية الفتحات والثقوب الناتجة عن إطلاق الرصاص، بالقماش بالنايلون على الرغم من سوء التهوية داخل البيت المحترق، رغم محاولتهم استخدام قطعة قماش لطرد أو قتل الحشرات، لكن الكميات الكبيرة تحول بينهم وبين حل الأزمة.
ورغم التحذيرات من ارتفاع حالات الالتهابات الجلدية وحساسية الأطفال في هذه القرى، إذ لا يعتبر البعوض مجرد إزعاج ليلي فقط، بل ناقل محتمل للأمراض، منها الطفح الجلدي، والتهابات العين، وأمراض الحساسية، وأمراض وبائية في حال استمر الوضع دون معالجة.
ويوضح أخصائي الطب الوقائي والصحة العامة محمود الفارس أن أزمة انتشار الحشرات الناتجة عن غياب النظافة وانتشار القمامة وسيول الصرف الصحي تعتبر أكبر من مجرد إزعاج ليلي أو اضطراب النوم، بل تهديد حقيقي للصحة العامة، حيث أن البعوض ينقل فيروسات مثل حمى الضنك، والتهاب الدماغ، إلى جانب أمراض الحساسية والالتهابات، مشددا على أن البيئة الحالية مهيأة لتفشي الأمراض، خاصة في ظل حالة المجاعة ونقص الفيتامينات وسوء التغذية الناتجة عن فقدان الغذاء الصحي، ويتابع: لدينا أطفال مصابون بحساسية شديدة، مرضى ربو، وكبار سن، هؤلاء في خطر، الحل يتطلب معالجة جذرية تشمل إزالة المياه الراكدة، جمع القمامة، وتوفير المبيدات، وكلها غائبة أو ناقصة بسبب الفقر والجوع.
تؤكد البلديات أن الإمكانيات شبه معدومة، وتطالب المؤسسات الإنسانية بتوفير الدعم العاجل لتشغيل مشاريع مكافحة الحشرات، وصيانة البنية التحتية المتدهورة، لكن حتى اللحظة تبقى هذه الاصوات صوتا في فراغ الفقر والحاجة والالم.
لكن الأزمة ما زالت قائمة على الرغم من الجهود المتواضعة التي يتم بذلها من طرف البلديات، والضعف الشديد في الإمكانيات، ولا تقتصر المعاناة على الفقر والجوع والمرض، بل تمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية، إلى النوم الذي يحرم منه الأطفال، وإلى بعوض صغير يحمل في جناحيه صورة كبيرة لمعاناة لا تنتهي.