لم يكن أكثر المراقبين فهماً لسياسات الرئيس العثماني أردوغان المتناقضة أحياناً والمرتبكة أحياناً أخرى يتوقع أن يخطئ هذه المرة في الرهان على استقطاب دعم عسكري أمريكي من أجل مواجهة روسيا على الأراضي السورية.
كيف لمبتدئ في السياسة أن يتوقع أن تغامر إدارة الرئيس ترامب بالتورط عسكرياً في سوريا مجدداً وهي التي خرجت من سوريا منذ أشهر قلائل وتسابق الزمن لإغلاق ملف الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان قبيل احتدام سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل، ناهيك عن أن التورط في سوريا هذه المرة سيكون ضد روسيا ولمصلحة تركيا التي اثبتت أنها غير جديرة بأن تكون حليفاً عسكرياً موثوقاً للولايات المتحدة إثر خلافات عديدة في السنوات الأخيرة أسفر بعضها عن غضب أمريكي إلى حد فرض عقوبات على الحليف الأطلسي التركي!
الواقع يقول أن أردوغان قد أوقع نفسه في مأزق استراتيجي حاد للغاية بكثرة التهديد والوعيد وتقديم تعهدات هو أول من يدرك صعوبة تنفيذها أو بالأحرى استحالته، وفي مقدمتها التأكيد المتكرر على عدم التراجع “ولو خطوة واحدة” في سوريا، وبالتالي لم يكن أمامه لحفظ ماء الوجه سوى استجداء الحلول ومخرج من عنق الزجاجة الذي وضع نفسه والقوات التركية فيه، عبر بوابة الكرملين.
ولا أدري كيف لرئيس عاقل أن يواصل فتح ملفات الصراع والتورط على جبهات عدة في ليبيا وسوريا واقتصاد بلاده في أسوأ حالاته، ويبدو لي أنه لا تفسير لذلك سوى الرغبة في استغلال الشعور القومي التركي وإلهابه من خلال افتعال أزمة خارجية تثير الغبار وتصرف الأنظار عن انهيار شعبيته داخلياً، ولكنه لا يدرك أنه يحفر قبره السياسي بقراراته العشوائية المتسارعة وتصريحاته العدائية التي لم تترك له صديقاً ولا حليفاً يعتد به اقليمياً أو دولياً. وكيف لرئيس محنك أن يغامر بوضع بلاده على خارطة الدول التي تشهد حروباً وصراعات في وقت كان الاقتصاد التركي يجني فيه عشرات المليارات من الدولارات من عوائد السياحة والتبادل التجاري؟
المؤكد أن أردوغان لن يغامر بمواجهة عسكرية مع روسيا في سوريا، فهو على دراية كاملة بالفارق الهائل في توازنات القوى العسكرية بين الجانبين، وأن المسألة تتجاوز فكرة التفوق الجوي الروسي في سوريا، وأن هذه المغامرة التركية ـ لو حدثت ـ فستكون كارثة حقيقية في التاريخ العسكري التركي.
ولاشك أن إشارات الولايات المتحدة بتجاهل الطلب التركي بنشر بطاريات “باتريوت” في تركيا بالقرب من الحدود السورية لم يكن مفاجئاً، بل كان متوقعاً تماماً، فالإدارة الأمريكية واضحة في هذا الشأن ولم تغير خططها، بل تكرر كثيراً القول أن المهمة في سوريا لم تتغير وهي ـ كما أعلن وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، أن “مهمة الولايات المتحدة في المرحلة الراهنة هي الحيلولة دون ظهور تنظيم (داعش) مرة أخرى في المناطق النفطية شرقي البلاد”، وهي مهمة تتطلب وجود نحو 600 عنصر من القوات الأمريكية في سوريا في المناطق التي حررتها قوات سوريا الديمقراطية.
السؤال الذي يطرح نفسه ويتكرر كثيراً بين المحللين هو: هل تسبب أردوغان في وقوع تركيا في مستنقع من خلال سياساته ورهاناته الخاطئة في سوريا؟ الجواب هو نعم مؤكدة لأسباب عدة أولها أنه لم يحسن قراءة عقلية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبالغ في الرهان على دعم أمريكي عسكري في مواجهة روسيا إذا تطلب الأمر ذلك حتى أن القوات التركية المتمركزة في سوريا باتت في مرمى النيران السورية بدعم من الطيران الروسي وأصبحت في وضع عسكري لا تحسد عليه!
وثانيها أنه أخطأ في تقدير حسابات المصالح الاستراتيجية الروسية في سوريا وتخيل أن هناك مجال للمساومة على مستقبل هذا البلد وانتزاع نصيبه من “الكعكة” وأن الرئيس بوتين يمكن أن يسمح لتركيا بالاستفادة مما حققه الدعم الروسي العسكري لنظام الأسد طيلة سنوات مضت منذ بداية الأزمة في سوريا، وثالثها أن أردوغان قد رفع سقف توقعات الشعب التركي بتصريحاته المتكررة حول التدخل التركي في سوريا، وبات في مأزق حقيقي صعب بسبب تقاطر جثامين الجنود الأتراك من سوريا، فضلاً عن تفاقم أزمة اللاجئين السوريين بسبب ما يحدث في إدلب، وانهيار حلم أردوغان وانقلاب خططه إلى تدفقات إضافية للاجئين بدلاً من تصريحاته حول إعادة معظم الموجودين منهم في تركيا إلى بلادهم!
يجب على أردوغان أن يدرك أنه لن يحصل على تنازل روسي في سوريا، وبالتالي فليس أمامه سوى التصرف كرئيس دولة بحجم تركيا وتنفيذ اتفاق سوتشي والتخلي عن تنظيمات الارهاب، التي يعلي مصالحها على مصالح شعبه وقواته التي تعاني حصاراً سورياً في مراكز المراقبة حول “إدلب”؟
لا يدرك أردوغان أن الخيط الرفيع و”شعرة معاوية” التي تربط تركيا وروسيا قد باتت على وشك التمزق، وأن غطرسته قد تشعل الحرب السادسة عشر في تاريخ العلاقات التاريخية الصعبة بين روسيا وتركيا، وهو أمر مستبعد نظرياً على الأقل، ولكن قد يحدث ما لا يقل سوءاً وهو تجرد أردوغان من حلفائه وانكشافه داخلياً وخارجياً حيث بات زعيماً على حافة الهاوية السياسية.