لكل السوريين

ماري حاضرة الفرات

حسن مصطفى

تقع مدينة ماري إلى الشرق من مدينة دير الزور بمسافة 115كم أما عن البوكمال فتبعد قرابة 15 كم، وتبعد عن مجرى نهر الفرات حوالي 2,5 كم إلى الغرب منه عند تل الحريري حين كان الفرات يجري بجوارها.

وعرفت مدينة ماري منذ القدم كأعظم شاهد على حضارة الفرات، أما عن آثارها المكتشفة فهي أكبر من أن تستوعبها دراسة أو بحث أو كتاب ففي المتحف البريطاني يوجد تمثال صغير إضافةً إلى بعض القطع الأثرية التي تعود للملك السومري (أيانايم)، كما عثر على بعض النصوص التي تعود للملك (توغورتي ـ نينورتا الأول).

كما أن وثائق مدينة ماري المكتشفة كان لها دور كبير في التعريف بتاريخ (كركميش ـ وإيمار ـ ويمحاض ـ وقطنة) خلال القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد، ناهيك عن تاريخ الدولة الاشورية في عهد شمشي حدد الأول، وهذا ليس بغريب فالقبائل الكنعانية والعمورية انطلقت من ماري باتجاه بابل وسومر وآشور بعد أن تجمعت في ماري قادمةً من بادية الشام.

كما أن التنقيبات الأثرية استمرت بها منذ أكثر من خمسين سنة لأن أهميتها الحضارية والتاريخية تضاهي أهميتها السياسية، حيث اشتهر بها ملكان هما (يخدون ليم ـ وزيمريليم)، حيث امتد حكم (يخدون ليم) من عام 1825 وحتى عام 1811 ق.م.

وتأسياً بغيره من ملوك القبائل المعاصرة له آنذاك حاول (يخدون ليم) ضم الممالك المجاورة، وفي بداية العصور الحديثة لم تكن ماري معروفة حيث اختلف عدد من العلماء والباحثين في ذكر موقعها اهو على شاطئ الفرات الأيمن أم الأيسر.

ولكن أكثرها دقةً هو (أولبرايت وهزرفيلد ـ ودولابورت)، أما مرد ذلك الاختلاف فيعود إلى حركة نهر الفرات المتجهة مع مرور الزمن نحو الشرق يضاف إلى ذلك بعد تل الحريري عن طريق البوكمال ـ دير الزور القديم مما جعل الموقع بعيداً عن أنظار الباحثين، ولهذا السبب كان من شبه المستحيل العثور عليه لولا الصدفة التي قادت إليه.

ففي يوم من أيام شهر آب من العام 1933 بينما كان بعض من افراد البدو يحفرون في أحد أطراف تل الحريري لاستخراج حجر لوضعه على قبر أحد موتاهم عثروا على تمثالٍ ضخم بلا رأس من الحجر الأبيض، فما كان منهم إلا أن أخبروا السلطات الادارية بذلك، حيث عملت على نقل التمثال إلى متحف حلب فوراً، بعدها أعطي امتياز للتنقيب في الموقع لمديرية المتاحف الوطنية الفرنسية حيث شكلت بعثة تنقيب برئاسة العالم الآثاري الأستاذ (أندريه بارو) مدير متحف اللوفر.

وصلت البعثة إلى الموقع قبل نهاية العام 1933، وبدأت الحفريات واستمرت حتى عام 1939، حيث توقفت بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وقد أسفرت نتائج الحفريات الباهرة عن اكتشاف مدينة ماري القديمة بمبانيها ونقوشها وتماثيلها.

وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى استأنفت البعثة برئاسة (بارو) نفسه الحفريات، وهذه البعثة استمرت بعملها كل عام في موسم التنقيب خلال شهري آذار ونيسان.

وكل ما تعثر عليه من لقى وقطع أثرية تقوم بتسليمه إلى السلطات الأثرية، في حين أن ما عثرت عليه إبان عهد الانتداب الفرنسي آل نصفه إلى المتاحف الفرنسية حيث تزين آثار ماري والآثار السورية الأخرى عامة ردهات المتاحف الفرنسية.

فالموقع الجغرافي الممتاز لمدينة ماري على نهر الفرات جعل منها همزة وصل بين المتوسط وبلاد ما بين النهرين وبلاد الأناضول، فهي مركز تجاري هام تنافست عليه كثير من الممالك والتي حاولت اخضاع هذه المدينة لنفوذها وذلك لتأمين طرق القوافل التجارية بين مناطق العالم القديم.

لقد استطاع سكان ماري العموريين أن يحافظوا على استقلالهم مدةً طويلة ويجعلوا منها عاصمة للفرات الأوسط حيث اتسعت رقعتها وبدت قوية مهابة الجانب بعد أن سيطرت على قوافل التجارة لتثري من المكوس، يضاف إلى ذلك خصب أراضيها للزراعة.

كل تلك العوامل سهلت لسكان ماري إقامة حضارة من أعظم الحضارات التي شهدها الألف الثالث والثاني قبل الميلاد، وكان للملك (حمورابي) ملك بابل اليد الطولى لتخريب ذلك عبر الاستيلاء على ماري وفتح الطريق أمام القوافل التجارية لتصل جيوشه الجرارة إلى البحر المتوسط وجبال لبنان (الأرز) ومناطق النحاس والذهب لتبقى بابل وحدها ودون منازع عاصمةً للعالم القديم.

تعود أهمية ماري لأنها كانت إحدى المراكز الحضارية في العالم حيث تعود إلى أواخر الألف الرابع قبل الميلاد.

لقد مرت ماري خلال تاريخها الطويل في فترات وعهود مختلفة منها العهد السومري (عصر ما قبل السرغوني)، وكانت آنئذ إحدى المدن السومرية الهامة في ذلك العصر.

وبعد العصر السومري في ماري جاء العصر السرغوني حوالي منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد استطاع (آركون الآكادي) أن يوحد المدن السورية الشمالية والجنوبية، وأكبر الظن أن مدينة ماري كانت من هذه الإمبراطورية السرغونية، وعندما انهارت الإمبراطورية السارغونية على إثر هجوم الغوطيين (قبائل بربرية من جبال زاغروس استعادت المدن السومرية استقلالها وعلى رأسها مدينة (أور) التي أسست بدورها سلالة (أور الثالثة).

حيث دخلت مملكة ماري تحت سيطرتها، إلا أن هذه السيطرة لم تلبث أن زالت بهجوم الأموريين الساسانيين على المنطقة واستيطانهم في مدينة ماري في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد وتأسيسهم امبراطورية واسعة صهرت في بوتقتها كل السلالات الحاكمة بما فيها سلالة ماري، إذ قضي على آخر ملوكها (زيمريليم).

ولكن عندما اضطربت أحوال البلاد بعد حمورابي احتل الآشوريين منطقة الفرات الأوسط، حيث نجح الملك الآشوري         (توكولتي نينورتا) في احتلال مدينة ماري والقضاء على مملكة بابل الأولى، وبعد خضوعها للحكم الآشوري تضاءلت أهميتها حتى غاب أسمها إلى أن كشف النقاب عنها بضربة معول من يد إعرابي يريد دفن أخيه.

وقد مرت مدينة ماري بعدة أدوار تاريخية برأي الأستاذ (بارو) رئيس البعثة الفرنسية التي تنقب في هذه المدينة العظيمة منذ عام 1933 وحتى يومنا هذا وهذه الأدوار هي:

1 ـ الدور البارتي ـ الساساني :

وجدت آثاره في القبور المنتشرة على سطح التل البيضوي الذي يبلغ طوله كيلومتراً واحداً وعرضه ستمائة متر وتبعد أعلى نقطة فيه عن السهل المجاور أربعة عشر كيلومتراً.

2 ـ الدور البابلي الجديد والآشوري:

وجدت آثاره العديدة من القبور الفخارية وتعود إلى القرن / 14ـ 16 ق.م/.

3 ـ دور ملوك عانة (بعد عهد حمورابي):

وآثار هذا العهد قليلة مقارنة بالعهود الأخرى المكتشفة وتعود إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد.

4 ـ دور ملوك ماري المعاصرين لسلالة بابل الأولى:

أشهر آثار هذا الدور معبد عشتار ومعبد نينهور ساغ حوالي 2000ق.م

5ـ دور الحكام المعاصرين لسلالة أور الثالثة:

ومن آثارها قاعة النصر ومعبد دجن ونينهور ساغ حوالي 2100ـ 2250 ق. م.

6 ـ الدور السارجوني:

ومن آثاره معبد نينهور ساغ وبعض المباني المجهولة الوظيفة 2600ق.م.

7 ـ الدور ماقبل السارجوني:

ومن آثاره معبد نينهور ساغ ومعبد عشتار 2700ـ 3100 ق.م.

8 ـ دور جمدة نصرة:

ومن آثاره أبنية حجرية تحت معبد عشتار تعود لـ 3100 ق.م، وقد جمع من قصر ماري التاريخي المشهور مجموعة ضخمة من الوثائق المكتوبة (الرقم). وهي عبارة عن لوحات من الطين المجفف بالشمس كتب عليها بالخط المسماري الآكادي البابلي.

ويبلغ عدد هذه الرقم عشرين ألف رقيم وجدت متفرقة في مكتبة القصر الملكي وهي تبحث في شتى المواضيع، وأغلب هذه الوثائق تعود إلى السلالة البابلية الأولى أي حوالي 2000ق.م.

ويعد القصر الملكي الذي اكتشف في العام 1935 في مدينة ماري من أروع قصور الملوك في الشرق القديم، وهذا البناء الضخم الذي بني في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد يمتد على مساحة أربعة آلاف متر مربع، وتبلغ عدد غرفه وقاعاته وممراته وباحاته ثلاثمائة غرفة وقاعة، وهذا القصر الذي عملت على تشييده عدة أجيال من ملوك وامراء ماري والذي يعتبر قلب المملكة المترامية الأطراف.

ويعد كمدينة إدارية يستقبل فيها الملك ضيوفه ومواطنيه ويعمل فيها عدد كبير من الموظفين وبجواره كان الجناح الملكي الخاص، وجناح رجال الحاشية والمدارس ومساكن لصناع الأسلحة، وغير ذلك مما يحتاجه البلاط وللقصر جدران ضخمة بمثابة أسوار تحميه أيام الخطر.

وتتبدى مظاهر الرقي والأبهة في القصر من خلال وجود الحمامات والقاعات المزينة بلوحات جدارية كبيرة يستمتع الناظر إليها لتناسق ألوانها وجمال تكويناتها وتعدد موضوعاتها، وبكلمة موجزة يمكن القول إنه لم يحظ أي بلاط ملكي قديم بما حظي قصر مدينة ماري من عظمة ونظام وتنوع وإبداع وعناية.

أهم مكتشفات ماري

يجمع المختصين على أن أهم مكتشفات ماري كنز ملك ماري (كانو أو آنود) والذي وجد خلال التنقيبات في الموسم الخامس عشر عام 1965، وهو عبارة عن جرة فخارية كانت متوسطة الحجم ومخبأة في إحدى غرف القصر الملكي العائد للسلالة الأولى المؤسسة لمدينة ماري والموجودة في الطبقة الثانية تحت قصر زيمريليم المشهور.

وهذا الكنز هو عبارة عن هدية مرسلة من قبل (ميذانيبادا) إلى زميله أو صديقه أو سيده (كانو أو آنود) ملك ماري، ولهذه الهدية دلالتها لما تتمتع به مملكة ماري من أهمية مرموقة في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد.

وقد وجد مع الكنز حجرة من اللازورد ثمانية الوجوه كتب عليها بالخط المسماري السومري (تقدمة من الرب كال، وميذانيبادا) ملك مدينة أور إلى (كانو ملك ميرا) أي ماري.

وهذه الخرزة المكتوبة توضح لنا أهمية ذلك العصر وتبين لنا العلاقات التاريخية بين ((ميذانيبادا)) ملك ومؤسس السلالة الولى في أور وكانو (آنود) ملك ومؤسس سلالة ماري قبل عصر سرجون حسب القائمة العاشرة للسلالات ما بعد الطوفان.

والمكتشفات الأولية التي عثر عليها في قصر “زيمريليم” من الطبقة الثانية تؤكد مكانة هذه السلالة العظيمة وعظمة ملوكها من حيث ضخامة واتساع تلك الآثار والشواهد على ذلك العهد، ورقي فن العمارة فيه.

كما ترك لنا فنانو ماري آثاراً صدفية وعاجية فائقة الجودة وتنم عن ذوق رفيع، حث كانوا يجلبون الصدف من شواطئ الخليج العربي ومن ضفاف دجلة والفرات.

ومع الصدف كان يستعمل حجر الشيت واللازورد في تشكيلات هندسية مختلفة رائعة الجمال كما أن الفنانون المبدعون من ماري كانوا يطَعِمون لوحاتهم بطريقة التنزيل ببعض الأحجار الكريمة مثل العيون والحواجب وفراغات ما بين اليدين والجذع ومابين الساقين وما بين قوائم الحيوان.

كما أن صناعة الصدف والعاج لم تكن وقفاً على مدينة ماري بل إن هذا الفن انتشر فيما بين النهرين على نطاق واسع، والخلاصة أن صناعة الصدف والعاج من الصناعات الفنية المتقدمة والمزدهرة خلال الألف الثالث قبل الميلاد.

وخلال التنقيبات في ماري وجدت قطع صدفية وعاجية كبيرة تماثل ما أخرج من مدينة (أورولاكش) و(الوركاء)، وأمكن جمع وتركيب مشاهد عديدة أهمها مشهد عرض في متحف حلب يمثل موضوعاً حربياً ودينياً، كما أن متحف دمشق استطاع أن يجمع بعض اللوحات الصدفية ذات المستوى الرفيع من الجمال، وهناك إضافة لذلك آلاف المكتشفات الأثرية المعروضة في متاحف حلب ودمشق ومتحف اللوفر بباريس تبين عراقة الحضارة في مدينة ماري وأهميتها في العالم القديم.