لكل السوريين

الرقة.. جوهرة سياحية تحلم بالنهوض

عبد الكريم البليخ

في شمال الشرق السوري، عند انحناءة الفرات، ترقد الرّقة كجوهرة نُسيت في صندوق الزمن. مدينةٌ لا تزال أنفاس التاريخ تعبق بين أزقّتها، بينما تتكئ على ضفّتها الغربية أطلال حضارات بادت، تنتظر من يعيد إليها الحياة. هناك، في الرّقة، لا يُمكن للمرء أن يخطو خطوة دون أن يتعثّر بأثر، أو يصطدم بجدارٍ شاحب يئنّ من ثقل الأزمنة. ولكنّ السؤال المؤلم، العالق في حناجر أهلها وأحجارها على السواء، يبقى: متى يتم استثمار كنوز الرقة السياحية؟ ومتى يُنفض الغبار عن هذه اللآلئ المخبّأة، وتُستعاد رقّة المجد، لا رقّة الإهمال؟

من تلّ البيعة، الذي يحتضن آثار مملكة توتول منذ الألف الثالث قبل الميلاد، إلى مرّيبط، أول مسكن في تاريخ البشرية، لا تملك الرقة رفاهية أن تكون مجرد مدينة عادية. إنها سفينة زمنيّة أبحرت عبر حضارات وسلالات، من الأكاديين إلى الإغريق، ومن البيزنطيين إلى العباسيين. وفي كل حقبة، أضافت حجراً جديداً إلى تاجها المعماري والثقافي. الإسكندر المقدوني، الذي لطالما تغنّت به كتب التاريخ، أسّس فيها مدينة نقفوريوم عام 244 ق.م، تيمّناً بإعجابه بموقعها الفريد. وبعده بقرنين، أطلق عليها الإمبراطور ليون اسم ليونتوبولس، قبل أن يجيء العباسيون، فيذيبوا أطيافها المتعددة في بوتقة الحضارة الإسلامية، وينهض الخليفة أبو جعفر المنصور ليؤسّس مدينة الرافقة، فتصبح الرقة عاصمة الخلافة لفترة من الزمن.

كلّ هذه الطبقات من التاريخ ليست مجرّد أسماء تُذكر في الكتب، بل هي آثار حيّة تتنفس عبر التلال والمباني، تروي للعابرين سيرة مدينةٍ كانت، لوهلة، مركزاً للكون.

ذاكرة ملوّنة بالحجارة والماء

الرقّة ليست فقط ما يبقى من جدران الطين واللبن، بل هي حكاية الماء والحجر معاً. نهر الفرات، بفرعه العظيم الذي يلامس المدينة، ليس مجرّد مجرى مائي، بل ذاكرة متحركة. إنه شاهدٌ على الحضارات التي انحنت لترتوي من مائه، وعلى القرى التي ازدهرت على ضفافه، قبل أن تندثر. ومن هذا الفرات خرجت بحيرة جعبر، واحدة من أعذب البحيرات في العالم، تتلألأ تحت شمس الصحراء كمرآة سماوية، ولكنها، ويا للمفارقة، بلا زوّار، بلا استثمار، بلا حكايات سياحية.

تتوزّع على هذه البحيرة تسع عشرة جزيرة نهرية، كل واحدة منها عالم صغير، بإمكانها أن تكون جنةً على الأرض، لو امتدت إليها يد التخطيط والبناء. ولكنها اليوم، تشبه أحلام اليقظة: موجودة، ولكن بعيدة، جميلة ولكن مهملة.

لم تكن الرقة يوماً حبيسة الجغرافيا. فهي، إضافة إلى غناها الطبيعي والتاريخي، تحتضن بُعداً روحياً عميقاً، يجعلها قبلة لعشّاق السياحة الدينية. فيها مقام الصحابي الجليل عمّار بن ياسر، ومقام أويس القرني. تلك الأضرحة لا تقف وحدها، بل تصطفّ مع جوامع وأسوار وقلاع، مثل قلعة جعبر، وباب بغداد، والجامع العتيق، وكلها شواهد على زمن كانت فيه الرقة محوراً دينياً وعسكرياً واقتصادياً.

بل إنّ سور الرقة، الذي لا يزال واقفاً على الرغم من كلّ ما مرّ عليه من زلازل بشرية وطبيعية، يمكن أن يكون، لو أُحسن استثماره، وجهة عالمية شبيهة بسور الصين العظيم. ولكنه، للأسف، يعيش في الظلّ، يراقب قوافل السائحين التي تمرّ بمحاذاته، دون أن تلتفت إليه.

تميّز الرقة بموقع استراتيجي قلّ نظيره. فهي تتوسّط محافظات الشمال والجنوب السوري، وتربط البلاد بجارتها تركيا عبر بوابة تل أبيض، ما يمنحها إمكانيات تجارية وسياحية هائلة. ومع ذلك، هذا الموقع نفسه تحوّل في العقود الأخيرة إلى لعنة جغرافية. فعوض أن تكون ممرّاً للتلاقي، أصبحت جداراً للانفصال، ضحية للحدود والاعتبارات الأمنية، وساحة لتقاطع المصالح السياسية المحلية والدولية.

لقد تآمرت على الرقة جغرافيا الحرب، وتاريخ الإهمال، وأقدار الاستثمار الغائب. فعلى الرغم من صدور قرارات حكومية تُشجّع الاستثمار فيها، مثل المرسوم 54 لعام 2009 الذي يعفي المستثمرين من الضرائب لعشر سنوات، إلا أنّ الواقع بقي على حاله. غابت البنية التحتية، انقطعت الطرقات، ولم يأتِ أحد. حتى مشروع تقليص الحرم السياحي على بحيرة الأسد لتسهيل الاستثمار لم يفلح في تغيير المعادلة، لأن ما ينقص الرقة ليس قرارات على الورق، بل إرادة حقيقية لاستنهاضها من سباتها.

ثمة فهم خاطئ شائع في كثير من المجتمعات العربية، وهو أن السياحة رفاهية، لا ضرورة. لكنّ الرقة تنقضّ هذا الفهم. فالسياحة فيها ليست فقط مصدراً اقتصادياً، بل وسيلة إنقاذ لمدينة كادت أن تُمحى من الخارطة المعرفية لسوريا. فبمجرد استعادة السياحة، يمكن خلق فرص عمل، وتحريك العجلة الاقتصادية، بل واستعادة الهوية الثقافية المفقودة. والرقّة، بما تحويه من تنوّع في مكوّناتها، قادرة أن تتحوّل إلى نموذج حيّ على كيفية صناعة السياحة من التاريخ، والماء، والروح، والطين.

لكن كيف يمكن ذلك، والمدينة لا تملك فنادق لائقة، ولا مطاعم تطلّ على الفرات، ولا حتى وسائط نقل تربطها بالعالم؟ أيعقل أن تكون مدينة بهذه الأهمية بلا مطار؟ ألا تستحق الرقة أن تُعاد إلى خارطة المطارات السورية، لا لتُصبح محطةً جوّية فقط، بل لتربط الذاكرة بالمستقبل؟

حلم… أم نداء؟

حين يتأمّل الزائر الرقة من فوق تلالها الأثرية، أو على ضفاف الفرات عند الغروب، يشعر وكأن المدينة تهمس له. ليست همسات عشق، بل صرخات رجاء. صرخات مدينة تنوء بثقل كنوزها، وتئنّ من نكران الزمن لها. إنها لا تطلب الكثير، فقط أن تُرى، أن تُفهم، أن تُستثمر. ولكنّ ما يؤلم أكثر من النسيان، هو أن تكون مرئياً ومع ذلك لا يراك أحد.

هل هذا الحلم قابلاً للتحقّق؟ هل يمكن أن تنهض الرقة مجدّداً، لا فقط من ركام الحرب، بل من رماد النسيان؟ ربما. ولكن ذلك لا يحدث بالنيات، بل بالفعل. ولعلّ أول خطوة نحو هذا الحلم تبدأ بالإيمان بأن الرقة ليست مجرّد مدينة، بل شهادة حيّة على عبقرية الإنسان حين يلتقي بالمكان، وتاريخٌ يستحق أن يُروى لا أن يُدفن.

- Advertisement -

- Advertisement -