لكل السوريين

القدود الحلبية تراث خالد يعانق وجدان الحلبيين

تُعدّ القدود الحلبية جزءاً لا يتجزأ من هوية مدينة حلب الثقافية والفنية، فهي الأداة التي تعبّر عن معاناة وهموم أهلها، وتبقى حية في قلوبهم على مر العصور. ففي عام 2021، أدرجت منظمة اليونسكو “القدود الحلبية” ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية، وذلك في اعتراف دولي بأهمية هذا الفن العريق الذي لا يزال يتجذر في وجدان الحلبيين. إذ أن هذا الفن ليس مجرد أغانٍ، بل هو هوية وثقافة قائمة بذاتها، تمثل المدينة وشعبها عبر تاريخ طويل من الفرح والحزن، والتقاليد العريقة التي ترسخت فيها.
القدود الحلبية هي أغانٍ شعبية تم تلحينها على أوزان أندلسية أو دينية، ثم أُعيد استخدامها بكلمات مدنية وعاطفية. يعود أصل هذا الفن إلى العصر العثماني، واشتهر بشكل خاص في مدينة حلب، لتتحول القدود فيما بعد إلى مدرسة طربية متكاملة، يستلهم منها المطربون والملحنون على مر الأجيال، وتعتبر جزءاً أساسياً من التراث الفني في حلب.
وفي لقاء خاص مع الفنان الحلبي المعروف صفوان الجلالي، الذي يدرّس المقامات ويغني في المناسبات الثقافية في حلب، تحدث عن أهمية القدود الحلبية قائلاً: “القدود الحلبية ليست مجرد فن نغنيه فقط، بل هي هوية نعيشها. عندما أغني ‘يا طيرة طيري يا حمامة’ أو ‘ع الروزانا’، أشعر أنني أُحيي أرواح الأجداد.” وأضاف الجلالي: “الاعتراف الدولي من اليونسكو لم يضف على القدود قيمة جديدة، بل أكد ما كنا نعرفه منذ القدم، وهو أن هذا الفن سيظل باقياً في قلوبنا، لأنه يعبر عن مشاعرنا بصدق وعذوبة. لا يمكن للقدود الحلبية أن تموت لأنها تتناغم مع روحنا”.
أما عن تأثير القدود الحلبية على سكان حلب، يقول أبو نبيل، موظف متقاعد من حي المشارقة: “كل ليلة أستمع إلى صباح فخري وأغني معه. الطرب عندنا ليس مجرد ترف، هو تسلية وأصالة وذاكرة. نحن نغني كي لا ننسى من نحن، لأن القدود الحلبية هي جزء من تاريخنا، جزء من شخصيتنا.” ويضيف أبو نبيل: “الأجيال القديمة والجيل الجديد على حد سواء يعشقون القدود، وتبقى حلب مدينة طربية بامتياز، حيث لا تكتمل السهرات ولا الأعراس دون القدود”.

وتؤكد سمر، طالبة جامعية في كلية الآداب، أن الشباب في حلب لا يزالون يحبون القدود رغم تأثير الأغاني الحديثة. تقول: “في كل عرس حلبي، لا بد من وصلات طربية، ولا يكتمل الفرح من دون القدود. أحياناً ندمجها مع أغانٍ حديثة، لكننا نعود لها دائماً، لأنها ببساطة تمثلنا وتُظهر شخصيتنا الثقافية. حتى في اللحظات العادية، نحب أن نستمع إليها ونتذكر التراث”.
ورغم المكانة العريقة التي يحتلها الطرب الحلبي، يواجه هذا الفن تحديات كبيرة، أهمها ضعف الدعم الثقافي الرسمي، وغياب برامج التوثيق والتدريب المجاني للشباب الموهوبين. يقول الفنان صفوان الجلالي في حديثه عن هذه التحديات: “لدينا كنوز موسيقية لم تُسجل بعد، وموهوبون لا يجدون فرصاً للتعلم. نحتاج إلى معاهد حقيقية تحتضن هذا التراث، لا أن نكتفي بالاحتفال به فقط في المناسبات. يحتاج الشباب إلى تعلم الطرب الحلبي من أساتذة مختصين وبطريقة منهجية كي يواصلوا تقديم هذا الفن إلى الأجيال القادمة”.
القدود الحلبية ليست مجرد فن قديم في أرشيف الإذاعة، بل هي جزء حي من روح حلب. فهي تُحاكي الواقع وتجسد مشاعر الناس من خلال لحن وكلمات تعبّر عن الفرح والحزن، عن الحب والغرام، عن الأمل والتحدي. لا يزال هذا الفن يواصل العيش في الشوارع، في المقاهي، في المنازل، وفي الأفراح، ويتناغم مع صوت كل حلبي يستمع إليه.
وباعتراف العالم، أضحت مسؤولية الحفاظ على القدود الحلبية مسؤولية مشتركة بين جميع الأطراف: الدولة التي يجب أن تدعم هذا التراث، المجتمع الذي يجب أن يعي أهمية الحفاظ عليه، والمطربين أنفسهم الذين يجب أن يكونوا حريصين على نقله للأجيال القادمة. القدود الحلبية تمثل حلب بكل ما فيها من تاريخ وثقافة، ويجب أن تبقى حيّة، تنبض بالأصالة والجمال، وتستمر في إغناء الذاكرة والوجدان الحلبي.