برحيله، يغيب وجهٌ من وجوه الرّقة الثقافية الأكثر صدقاً وعمقاً، يغيب محمد العزو، (76) عاماً الباحث والمثقف والإنسان، تاركاً فراغاً لا يُسدّ، وسيرةً لا يُمكن أن تُنسى. رحل بصمتٍ يُشبه صمته العميق حين ينحني فوق قطعة فخار يستنطقها، أو حين يُحدّق في تلّ قديم كمن يصغي إلى التاريخ وهو يتنهّد.
محمد العزو لم يكن مجرد باحث في الآثار، بل كان أثراً يمشي بين الناس. لم يكن هاوياً للتراث، بل حارساً أصيلاً له، عاشقاً مخلصاً لمدينةٍ أحبّها بكل ما فيها، حتى الرمق الأخير. ظلّ يُنقّب لا فقط في الأرض، بل في الذاكرة، في الأرواح، في التفاصيل التي تمرّ على الجميع وتلتقطها عين النسيان، إلّا عينه.
في الرّقة، كان صوته الثقافي حاضراً دائماً. لم يكن غريباً عن الناس، بل واحداً منهم، يحمل خصال الإنسان الطيب، ويمنح لكل من حوله طاقة من السكينة والصدق والاحترام. لم يكن من الذين يُعادون، ولا من الذين يحفرون الحفر للآخرين. كان وفيّاً لطين المدينة، ولمثقفيها، ولماضيها وحاضرها.
هو “أبو آثار” كما أحبّه الناس أن ينادوه، لم يسعَ للضوء، بل ظلّ يحمل المصباح في يده، يبحث عن الحقيقة بين الشقوق، ويكتبها بلغةٍ خالية من الزيف. كانت له رؤية ثقافية صادقة، وضمير يقظ لا يتواطأ مع النسيان، ولا يُهادن حين يتعلق الأمر بالهوية والتراث.
رحل اليوم، ذاك الذي خُلق من الطين وأضاءه الوهج. عاش شريفاً، ومضى تاركاً إرثاً لا يُقاس بعدد الكتب، بل بمحبة الناس، وبحجم الأثر الذي تركه فيهم. في كل تلّ من تلال الرقة التي عرفها، وكل حجر من متحفها الوطني الذي رعاه كأنه بيته، ستظل أنفاسه عالقة.
محمد العزو المولود في عام 1949 لم تكن ولادته حدثاً عابراً في تقويم العائلة، ولا علامة باهتة في دفتر الأحوال المدنية. كانت إعلاناً أولياً، مكتوباً بلغة الغبار والشمس والريح، عن ميلاد رجلٍ ستصبح الأرض كتابه الأول، والتاريخ عشقه، والهوية الحقيقية التي ظل ينقب عنها في وجوه الفخاريات وشقوق التلال. ولد كما تُولد الأساطير، لا داخل غرف معقّمة أو على سرير من معدن أبيض، بل في قلب الأرض، في “الخصّ” ـ خيمة الشعر التي كانت وقتها مختبر الحياة الأول، وجناح الولادة، وسقف العالم بأكمله.
لم تأتِ أمه به إلى العالم على وقع صرخات قابلة، بل على إيقاع منجلٍ يقطع سنابل القمح في عزّ تموز. في شنينة، شمال الرّقة، حيث السماء لا تعرف الغيم إلا عابراً، وحيث التراب يعجن بالشمس لا بالماء، نزل محمد إلى العالم كما لو أنه قادم من رحم الأرض نفسها، لا من جسدٍ بشري. كانت أمه تحصد لتطعم، ثم أنجبت من يحفر ليُحيي.
في هذه الولادة المبكرة، قبل أوانها، ثمّة مفارقة تكاد تكون لا تصدق. نبوءة من نوع آخر: ولدته الأرض، فظلّ ينقّب عنها. ومن تلك اللحظة الأولى، لم يعد محمد مجرد ابن، بل شاهد على حقبة ولّى عنها الزمن لكنه لم يمحها. لقد وُلد في عالمٍ لا تزال ملامحه ترفض الحداثة، عالم يسكنه الغبار، ويفتقد للماء الساخن والبطانيات السميكة، لكنه لا يفتقد للمعنى.
في الخامسة، كان محمد قد ختم القرآن على يد الملا عمر الإدلبي، ذلك الشيخ البدوي الذي كان يتعامل مع السور كما لو أنها أسرار كونية، ومع الأحرف كأنها بوابات إلى الغيب. لم تكن الطفولة مرحلة لعب، بل مختبراً أول للروح. هناك، بين صفحات المصحف، بدأ وعيه الأول بفكرة الزمن. فالسور لها ترتيب، والآيات لها سبب نزول، وكل حرف يحمل وزناً، تماماً كما الأحجار التي سيجمعها لاحقاً من أطراف التلال.
لكن المدرسة جاءت لتقلب موازين القلب.
في مدرسة الرشيد الإبتدائية في عام 1958م كانت بداياته الاولى وكان عمره حينها تسع سنوات حتى أن الأب كان خلف القُضبان على إثر شجار عائلي. كتب له ابنه محمد رسائل كان يرسلها له مع والدته حين تزوره في السجن. كان يكتب بيدٍ لم تتمرن على الخط بعد، ومرّ عبر تلك التجربة بممر سريّ نحو الكتابة كقيمة نفسية: الكتابة لا لتسجيل الأحداث، بل لتعويض الغائب، لتطويل الحبل بين قلبين مقطوعين بالمسافة والزمن. وهكذا، تسرّب الحرف إلى نفسه، لا كفنّ، بل كغريزة نجاة.
وفي تلّ البيعة، حيث لا توجد أشجار كفاية ولا ظلال تغري بالبقاء، بدأت جذوةُ الشغف تشتعل. كان يرعى الماعز مع أطفال القرية، يلعب لعبة “الحاح”، و”الكلل”، يركض وينكسر، لكن ما ظل يؤلمه لم يكن الكسر، بل الأسئلة غير المجابة. هناك، على الهضاب، كانت الشظايا الفخارية تتناثر كما لو أن الزمن بعثر روحه وتركها تنتظر من يقرأها.
أقرانه انشغلوا باللعب، أما هو فانشغل بالدهشة. يسأل نفسه: لمن كانت هذه القطعة؟ كيف تحجّرت؟ لماذا تركت هناك؟ كأن الأرض نفسها تراوده، تعطيه إشارات، لكن دون أن تفصح. كان صبياً يحاول أن يقرأ ما لا يُقرأ.
عام 1967، وبين أروقة الإعدادية، وجد من يشبهه في السؤال: أستاذ التاريخ “صفوح الرجال”، قال له: “بعض هذه الكسَر من العصر الإسلامي، وبعضها أقدم من ذلك بكثير”. عندها فقط، عرف محمد أنه ليس وحده، وأن أسئلته يمكن أن تكون منهجاً علمياً، لا مجرد فضول طفولي. هكذا، بدأت الرحلة تتخذ شكلاً.
سافر شرقاً إلى قلب أوروبا، حيث الضباب يحاصر النوافذ، وحيث المعمار القوطي يعانق الغيم. في تشيكوسلوفاكيا، وتحديداً في جامعة تشارلز الرابع، غاص في دراسة الآثار الكلاسيكية وتاريخ الفنون الجميلة. كانت مفارقة عميقة: ابن الهجير، الذي جاء من خيمة تتنفس التراب، صار يجلس في قاعات تُعلّق فيها لوحات عصر النهضة. لكنه لم ينسَ أصوله؛ ظلّ ينظر إلى التماثيل الرخامية كأنها ظلّ نافر لتمثال طيني من تلّ موزان.
عاد محمد إلى الرّقة لا كباحثٍ غريب، بل كابنٍ يحمل سِفْر الأرض في قلبه. عُيّن رئيساً لشعبة آثار المدينة، ثم انتقل إلى الرياض، ليعلّم ما لم يُدرّس: أن التراب ذاكرة، وأن الأثر ليس حجراً، بل سؤالاً.
ومع ذلك، ظل قلبه معلقاً بالرّقة. في عام 1987، عاد ليستقر. هذه المرة، لم تكن العودة عابرة. أصبح محمد أميناً لمتحف الرّقة الوطني، لكنه لم يكن موظفاً يُحصي القطع، بل عاشقاً يوقظها من نومها. صار المتحف امتداداً لذاته، لحنينه، لشغفه، لصمته.
أشرف على عشرات التنقيبات: تل الأسود، تل البيعة، الشيخ حسن، حمام التركمان، وسواها. لم يكن يحفر بحثاً عن الذهب، بل عن الزمن. كان يبحث لا عمّا تُخرجه الأرض، بل عمّا تُخفيه بين القطع، في الهوامش، في المساحات الفارغة التي لا تراها الكاميرات.
ومع مرور الوقت، أدرك أنّ الذاكرة تحتاج إلى مؤسسات، لا فقط إلى أفراد. فأسهم في تأسيس فرع جمعية العاديات في الرّقة عام 2004، وانتُخب رئيساً لها عام 2006. الجمعية التي نأت بنفسها عن الاستقطابات السياسية والدينية، اختارت أن تكون منصة لتكريم الذاكرة، ولإعادة الاعتبار للهامشيّ، لما أُهمل، لما دُفن.
محمد لم يكن فقط باحثاً، بل صار حاملاً لذاكرة الناس. صار شاهداً على طبقات متعددة من المعنى: المعماري، الديني، النفسي، السياسي، العاطفي. أصبح قطعة أثرية بحد ذاته، لا لقدم عمره، بل لعمق نظراته، لتلك الأسئلة التي لم يتوقف عن طرحها.
صدر له كتاب “حضارة الفرات الأوسط والبليخ”، وكتيّب عن الرّقة، وسلسلة من الأبحاث التراثية. لم تكن هذه المؤلفات مجرد تجميع للمعرفة، بل محاولات لاستعادة ضوءٍ كان قد انطفأ، لجمع ما تبعثر في نكبات الزمان.
وحين شارك في تنقيبات موقع “الفاو” في السعودية، لم يكن غريباً في المكان؛ وساهم في إصدار كتاب “الفاو قرية”. لقد صار هو ذاته مرآةً للأماكن، كأنه أينما حلّ، حمل معه ذاكرة الرمل والطين والظلّ.
محمد العزو ليس مجرد اسم، بل حكاية من طينٍ ووهج. حفر في الأرض كما يحفر الشاعر في الكلمة، وأحب التلال كما يحب الفلاح سنابل القمح. لم يكن التاريخ عنده سرداً لأفعال الملوك، بل خريطة للأثر الإنساني، لخطوات الأمهات وصرخات الولادة في البراري، لألعاب الأطفال فوق الفخاريات، لرسائل كتبها طفلٌ إلى والده خلف القضبان.
هو رجلٌ من تراب الهضاب، من ظلال الخيمة، من صوت الفخار حين يُلامس الريح. سيرة لا تُقرأ، بل تُعاش. وما تركه خلفه ليس كتباً فقط، بل أسئلة معلقة في الهواء: من مرّ من هنا؟ وماذا بقي منه؟ ومن سيحمل الشعلة بعد أن تنطفئ شموع المتحف؟
إن سيرة محمد العزو ليست سيرة رجلٍ واحد، بل هي مرآة لجيل كامل وُلد في خيمة، واحتضنته الأرض، فراح ينبشها لا ليستخرج كنوزها فقط، بل ليستعيد ذاكرة كانت دوماً هناك، تنتظر من ينصت. كانت حياته حفراً في الحرف كما في التراب، ومضت رحلته شاهداً على أن التاريخ لا يُكتب فقط بالحروب، بل يُكتب أيضاً بالأصابع التي تمسد الغبار عن قطعة فخار، وبالعيون التي تتأمل هضبة وتتساءل: من مرّ من هنا؟ وماذا بقي منه؟
في نهاية المطاف، كان يقول ـ دون أن يقول ـ إنَّ الأرض لا تَحفظُ فقط من يُدفن فيها، بل تَحفظُ من يُنصت إليها.
الجدير ذكره أن الآثاري والمثقف محمد العزو كان من مؤسسي صحيفة السوري، وكانت له مشاركات واسعة فيها، ويُعدّ من الوجوه الثقافية البارزة في الرقة، ممن تركوا بصمة لا تُنسى.