لكل السوريين

” النحاسيات ” شاهد على الحضارة والعراقة الحلبية

حلب : خالد الحسين

مدينة حلب من أقدم مدن سوريا وأعرقها ولا زالت هذه العراقة واضحة في معالم المدينة البهية وواضحة في بيوتها القديمة والأصيلة وفي أسواقها وحاراتها وأزقتها القديمة فهي تحمل كل معاني العراقة و الجمال ، الحلبيون لا زالوا يحافظون على الأواني النحاسية كتراث جميل ومحبب لديهم ، ففي سوق النحاسين بحلب القديمة يذهل المتسوق من جمال القطع النحاسية المصنوعة بأيادٍ ماهرة ومشغولة ببطئ وتأني .

ويعتبر النحاس أكثر أثاث البيت الحلبي أصالة وفخامة، ويتباهى الحلبيون باقتنائهم الأواني النحاسية، وإلى وقت ليس بالبعيد لم يستعملوا من الأدوات المعدنية غير النحاس فهو الأبقى، وهو الأفخم، وهو الذي يشي بالغنى والعراقة.

«دخل النحاس في العبارات والأمثال الحلبية فقالوا: “فلان بيّض نحاساته فينا”، ويقال للرجل إذا حاول كسب ود بعض الناس على حساب البعض الآخر»، الحديث كان للباحث في التراث “ممدوح الشيخ” وتابع بالقول: «ودخل النحاس في الحكاية الشعبية الحلبية “مدينة النحاس”، حيث كل قصورها ومبانيها من النحاس. ولعل الخيال الشعبي قد اختار النحاس من بين المعادن لما له في الذهنية الحلبية من مكانة، وكذلك دخل النحاس في الحزورة الشعبية، فالطاس هو مستودع الوقود في المصباح، وكانوا يتخذونه قديماً من النحاس وبداخله زيت الكاز».

وعن الأدوات النحاسية بيّن الباحث “ممدوح الشيخ” بالقول: «من أولى الأدوات “الخلقينة” وهي وعاء كبير يتسع لأكثر من 200 ليتر، يستخدمه الحلبيون لغرضين رئيسين: “الدبس والسليقة”، ولا توجد “الخلقينة” في كل بيت نظراً لكلفتها من جهة، ولمحدودية استخدامها من جهة أخرى، وإنما يقتنيها فرد في القرية، وربما وُجد في القرية أكثر من “خلقينة”, ويقوم أصحاب الخلاقين بتركيبها في موسم “السليقة” جانب البركة أو أي مصدر مائي آخر، متخذين لها مكاناً ثابتاً كل عام يقومون ببنائه وتلييسه بالطين، وتلييس البيدر الذي سينشلون عليه السليقة، أما في موسم الدبس فيتخذون لها مكاناً آخر، إذ يكون لكل صاحب “خلقينة” معصرة مجهزة بمختلف وسائل صنع الدبس، ويتقاضى أصحاب الخلاقين أجر خلاقينهم مواد عينية، ففي موسم السليقة يتقاضون على كل نزل كمية من البرغل، وفي موسم الدبس يتقاضون عن كل تنكة دبس كمية من الدبس، وقد دخلت الخلقينة في تشبيهات الجبليين فقالوا: “مثل اللي قاعد بالخلقينة”، وحكاية هذا التشبيه أن جمّالاً كان ينقل خلقينة على ظهر جمله، وعلى الطريق صادفة رجل، وأراد الجمّال أن يقدّم له خدمة، فأناخ جمله ووضع الرجل في الخلقينة كي يخفف عنه مشقة السير، وصادف أن مرّ الجمال بجماعة من الناس فألقى عليهم التحية: “صبحكم بالخير”، فما كان من الرجل الذي في “الخلقينة” إلا أن نهض وصاح بدوره: “صبحكم بالخير” دون أن يكون قد رآه أحد, ويطلقون هذا التشبيه للرجل الذي يكلف نفسه عناء أمر ما دون أن يكون مطلوباً منه ذلك.. ومن تعابيرهم: “سطح مخلقن” إذا حدث فيه عيب أدى لانكفائه على شكل خلقينة».

وتابع الباحث “ممدوح الشيخ” بالقول: «من الأدوات أيضاً “الحلة” وهي كالخلقينة لكنها أصغر، إذ متوسط سعتها من 70 إلى 80 ليتراً يستخدمها الحلبيون للعجين في البيوت الكبيرة. وربما استخدموها للطبخ أثناء الولائم، وهناك أداة تدعى “الدست” وهو قدر كبير له حلقتان، يستخدم لطبخ الولائم الكبيرة ، كما يستخدم لترويب الحليب وصنع اللبن، وقد دخل الدست في الحزورة الحلبية فأداروا حوله اللغز التالي: “أسود برني، قاعد بالقرني، الدست الله لا يهديك عليه”، كما دخل الدست في تعابيرهم الشائعة، فإذا أطلق أحدهم لغزاً صعباً قالوا: “هذا من كعب الدست” أي عميق وصعب الوصول إليه، كما يستخدمون هذه العبارة في وصف أسئلة الامتحان الصعبة فيقولون “أسئلة من كعب الدست”، ثم هناك أداة تسمى “لكن العجين” وهو أناء دائري متوسط قطره 70 – 80 سم، وارتفاعه 20 – 25 سم، يستخدمه الحلبيون للعجين بالدرجة الأولى، على أن له استخدامات أخرى في “الصويل”، و”السطاحة وركس الخبز”.

و”المصب” وهو شبيه بالمنسف، غير أنه أصغر، وبلا حلقات، ويستخدمه الجبليون لصب الطعام الجماعي للعائلة، ومن الأدوات “الطنجرة”، والطناجر هي قدور مختلفة الحجوم، وفي المطبخ الجبلي عادة أكثر من طنجرة، وبأحجام مختلفة، وللطنجرة استخدامات متعددة أكثرها للطبخ، ونوع الطبخة هو الذي يحدد حجمها إضافة لعدد أفراد العائلة، ودخلت الطنجرة في أمثال الحلبيين وتعابيرهم الشائعة، فقالوا: “طنجرة ولاقت غطاها” وهو مثل يضرب لشخصين توافقا في الصفات واتفقا على عمل أو شراكة معينة، وفي الألعاب الشعبية دخلت الطنجرة في تعبيراتهم، فإذا أرادوا تحديد الفريق الضارب والفريق المضروب لجؤوا إلى طريقة “طنجرة وغطاها”، وذلك بأن يتقابل رئيسا الفريقين وبينهما مسافة، ثم يتقدم كل منهما باتجاه الآخر قدماً فقدماً قائلاً أحدهما في كل قدم يخطوه: طنجرة، فيرد الآخر: غطاها، ومن يستطع تغطية رجل الآخر يبدأ فريقه باللعب».

وتابع “الشيخ” قائلاً: «ومن الأدوات أيضاً “القلاّية”، وفي المطبخ الجبلي عدد من القلاّيات المختلفة الحجوم، والقلاية إناء له ساعد يستخدم لإعداد القليّة، وقلي البيض، و”المقلى” وهو إناء أكبر من القلاية، لا ساعد له وإنما له قبضتان غير متحركتين يسمونهما “أذني المقلى” ويستخدم المقلى لقلي الخضار واللحم وغير ذلك من المأكولات، وهناك أدوات أخرى ليست خاصة بالمطبخ الجبلي، فهي مشتركة بين مختلف البيئات، ومن أهم هذه الأدوات: “الكفكير، والهاون، والسدر، وطاسة الشرب، وأباريق الماء، وأباريق الشاي، والكؤوس وغير ذلك كثير».

الشاعر الشعبي “محمد الضامي ” المهتم بالتراث الشعبي وعضو في جمعية الأدب الشعبي وأصدقاء التراث بيّن علاقة الأمثال الشعبية بالأدوات النحاسية في حلب بقوله: «التصقت منظومة العادات والتقاليد العربية في حلب مع العديد من الأدوات النحاسية التي ارتبطت بالأمثال التي دخلت ضمن مفرداتنا اليومية وأصبحت تراثاً، خاصة أن تلك الأدوات النحاسية هي جزء من مطبخنا الحلبي التي كانت تستخدم في الولائم الكبيرة والمناسبات الاجتماعية بأنواعها المختلفة الحاملة للسعادة والفرح والحزن».