رغم مرور قرابة 10 سنوات كاملة على ما حدث لحركة “الإخوان المسلمين” في مصر، فإنه لم تصدر أي مراجعات فكرية أو نقدية خاصة بأدائهم السياسي، سواء خلال الفترة التي صعدوا فيها الى السلطة، أم ما بعد ثورة 30 حزيران (يونيو) من عام 2013، وقد يعود ذلك لأسباب، منها أن قادة التنظيم وأمراءه ما زالوا يرون أنهم على الطريق الصحيح! وليس هناك ما يستلزم المراجعة أو حتى التراجع.
جماعة “الإخوان المسلمين” تتعامل باستعلاء شديد مع الأفكار التي تركها المؤسس الأول حسن البنا، ولا تقبل أي انتقاد لها يفضي إلى تغيير هذه الأفكار، قد يحدث الانتقاد داخلياً، ولكن سطحياً ولا يؤدي إلى نتيجة، فما زال الإخوان يرون المؤسس بمثابة الملهم الموهوب، كما أشار أحد مرشدي التنظيم في كتاب له، كما يرون سيد قطب بمثابة المجدد للفكرة والمعبّر الحقيقي عنها، هذه الرؤى تسير بالتنظيم في الاتجاه العكسي لمراجعة الذات والأفكار، ولا تسمح في الوقت ذاته بنقد الفكرة المؤسسة ولا المناهج التي يتربى عليها الأتباع.
راجعت بعض التنظيمات المتطرفة أفكارها عندما دخل قادتها السجن، فكانت فرصة للمراجعة وتغيير المفاهيم مع إعادة ضبطها، حدث ذلك مع تنظيمي “الجماعة الإسلامية المسلحة” و”الجهاد الإسلامي” في مصر، وأثمرت هذه المراجعات التراجع عن استخدام العنف، ليس على المستوى الحركي فقط، ولكن تم تأصيل مفاهيم المراجعات عبر أطروحات أشرف عليها الأزهر الشريف وأقرها، وكانت هذه المراجعات في حقيقة الأمر مكسباً بُني عليه، بغض النظر عن الذين استفادوا من هذه المراجعات وما حققته لهم، وهم في حقيقة الأمر لم يتراجعوا قدر أنملة ولم يغيروا من مفاهيمهم.
بدأت مراجعات “الجماعة الإسلامية المسلحة” من داخل السجن عام 1983، صحيح لم تنضج هذه المراجعات إلا عام 1997، ولم تُفعَّل إلا عام 2001، وكانت هناك مؤشرات الى هذا التراجع الفكري والفقهي، وإصرار ممن حملوا البنادق والأسلحة في وجه الدولة والشعب معاً، حتى أعلنت الجماعة أثناء محاكمة بعض أعضائها قبل بدء الجلسة وأثناء حضور وسائل الإعلام المحلية والعالمية، أنها قررت وقف عمليات العنف داخل مصر وخارجها، وناشدت أعضاءها خارج السجن الالتزام بما قررته، حتى أنها قالت إن مبادرتها من طرف واحد وتمنت على الدولة التعاطي معها.
هذه المراجعات حققت في نهاية الطريق الأمل المنشود، وخرج أعضاء الجماعة وقادتها من السجون، وتم وقف تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة بحق بعضهم، هذه المراجعة لم تكن على المستوى المأمول بخصوص تنظيم “الجهاد الإسلامي”، بخاصة أن أغلب مجموعاته لا يجمعها رابط واحد، بمعنى أن البعض منهم قبل المراجعة وفق ما طرحه منظرهم د. سيد إمام، وهناك من رفض هذه المراجعة جملة وتفصيلاً.
استدعاء السرد التاريخي لهذه المراجعات مهم لفهم موقف “الإخوان المسلمين” منها، فرغم توافر كل البيئة التي أنتجت هذه المراجعات الخاصة بالتنظيمات التي سبق الحديث عنها، إلا أنه لم تظهر أي مبادرات تتعلق بهذا الأمر، بل وجدنا مواقف متشددة من الشباب الذين ضاقوا ذرعاً بالسجن، وحاسبوا قادتهم، وطرحوا هوامش لهذه المراجعة التي كانت تنتهي بالاعتداء على هؤلاء الشباب داخل السجون فتتيه أي أفكار تتعلق بنقد الذات.
الإخوان المسلمون غير مهيئين لمراجعة أفكارهم، وهو ما يؤكد أنهم في ورطة حقيقية لا تتعلق بصراعهم مع النظام السياسي في مصر أو في بعض العواصم العربية التي سقطوا فيها، ولا تتعلق بحالة الصراع الداخلي التي نشهدها بين جبهتي إبراهيم منير، القائم بأعمال مرشد الإخوان وجبهة محمود حسين، الأمين العام للتنظيم السابق، ولكن تتعلق بأفكار التنظيم التي لم تُعط فرصة لمراجعة الأفكار وللتراجع عن بعض المواقف، وهنا نستطيع القول إن الجماعة تسير في طريق اللاعودة، وإن ما حدث وما زال يحدث داخل التنظيم هو بمثابة عوامل انهيار جديدة يشهدها التنظيم العجوز، وهذا يعود في الأساس الى الأفكار التي باتت متكلسة لا حراك ولا حياة فيها.
الإخوان لا يرفضون المراجعات، ولكنهم يرفضون فقه المراجعات تحت مسمى “ولاية الدم”، وأنهم يريدون القصاص لمن قُتل منهم، ومفهوم أن أكبر عائق لأي مراجعة أن تجعلها مقابل التنازل عن “حق الدم” أو عن حقوق التنظيم، وبخاصة من ماتوا في المواجهات المسلحة أو حتى من تحدوا الدولة ودخلوا معها في صدامات أفضت في النهاية إلى مقتلهم، وهنا لنا كلمة، فقادة التنظيم بخاصة الذين تورطوا وورطوا التنظيم يرفضون مبدأ المراجعة وما يُبنى عليه، لأنه ببساطة يعني الاعتراف بالخطأ، وهذا الاعتراف سوف يكلفهم المحاسبة، وهم غير مستعدين لذلك، وليست لديهم الشجاعة للاعتراف بالخطأ، وهنا قد يقبلون بالمراجعة ولكنهم لا يعترفون بفقهها.
من الأخطاء التي وقع فيها كثير من التنظيمات المتطرفة، وقد يكون ذلك أحد أسباب تطرف هذه التنظيمات، أن قياداتها ظنت وما زالت تظن أنها فوق المحاسبة، من الصعوبة تغيير هذه القيادات، كما أنه ليس من السهل تصعيد هؤلاء الأمراء للقيادة، هذا في ظل تهميش لقطاع الشباب وعدم إتاحة أي فرصة للمعارضة داخل هذه التنظيمات، هذا يدفع هذه التنظيمات كي تتعامل وكأنها آلة تحاسب الغير ولا يُحاسبها أحد.
عندما نصف هذه التنظيمات بأنها فاسدة ومن الصعب أن يمارس أعضاؤها الإصلاح من داخلها، إنما نصف حقيقة هذه التنظيمات، ونحكم على ما نراه من طبيعة ربما تغيب عن أمرائها وقادتها، كما أنها تغيب عن الكثير من الباحثين والمراقبين، فما زال بعضهم يرى أن بعض هذه التنظيمات لديها رؤية إصلاحية، وأن التنظيم ينفي خبثه، وبالتالي سوف يظل التنظيم صالحاً ومصلحاً لمجتمعه، والحقيقة أن افتقاد المراجعة والشفافية دليلان إضافيان على فساد هذه التنظيمات.
حركة “الإخوان المسلمين” تفتقد الشفافية ونقد الذات، وليس الأمر مرتبطاً بأنها غير مهيأة لذلك، أو أنها مرت بظرف قد لا يدفعها لممارسة النقد الذاتي، ولكن الأمر مرتبط بأنها لا تعرف للشفافية ولا للنقد طريقاً، فهي لا تسمح بنقد نفسها ولا تسمح للآخرين بأن ينقدوها، ومجرد خلاف بين وجهات النظر بين قادتها وأمرائها، وكل منهما ينتمي إلى فصيل الصقور أو الحرس القديم، التيار المتشدد، قام كلٌ من إبراهيم منير ومحمود حسين بإعفاء الآخر من منصبة، فمجرد خلاف بينهما رأى كل واحد منهما في الآخر أنه خطر على التنظيم.
كل ما يثار عن وجود مصالحة بين “الإخوان المسلمين” والأنظمة السياسية التي عادوها في المنطقة العربية، أمر عار من الصحة، ولو خرجت تصريحات من الإخوان بهذا الخصوص فهدفها تجميل الوجه، الأمر يُشبة تماماً رجلاً أجرى جراحة قلب مفتوح، وبعدها بشهرين أُعلن اسمه للمشاركة في ماراثون للسباق، وهنا نقول إن تنظيم الإخوان معتل القلب والعقل، وبالتالي أي حدث من داخل التنظيم أو خارجه يتعلق بتغيير الأفكار والمراجعات لا يُعبر عن رؤية صائبة وواعية للتنظيم.
إشكالية “الإخوان المسلمين” والتنظيمات المتطرفة أنها أعلت التنظيم على حساب الفكرة، فمع الوقت أصبحت طاردة للمفكرين، والمفكر بحكم أنه متمرد بأفكاره فلا يقبله التنظيم، فهو دائماً يطرح الجديد غير السائد ليغير من خلاله، وهو ما لا يقبله التنظيم بحكم تركيبته؛ التنظيمات لا تقبل في داخلها من يتمرد عليها حتى ولو كان مفكراً، ولو فعل خلاف ذلك فما أصبح تنظيماً، وهنا تبقى التنظيمات نفسها أداة هدم للأفكار، فإذا أردت لفكرة أن تعيش فلا تحاصرها بتنظيم، واسقِها بالنقد واتركها للمارة، فإذا أخذوها فهم أولى بها، وإن عادوها فهذا حقها.
النهار العربي
الكاتب: منير أديب