لكل السوريين

بعد التضحيات ودماء الشهداء.. استقلال سوريا مفخرة ورسائل

تقرير/ لطفي توفيق 

منذ انتهاء الحرب العالمية الاولى عام 1918 نالت سوريا استقلالها، ورحل الاحتلال العثماني البغيض عن ربوعها بعد نضال شاق وطويل لطرد هذا الاحتلال الذي جثم على صدور السوريين، وأمعن باستعباد البلاد والعباد لأكثر من أربعة قرون نشر خلالها الجهل والتخلف والنعرات القومية والطائفية، وحارب الرموز الوطنية والثقافية والتنويرية ليفرض سياسة التتريك على سوريا، وعلى شعوب المنطقة.

وقبل أن ينعم السوريون بحريتهم، كشفت الدول الاستعمارية الغربية عن خططها السرية المبيتة لاقتسام دول المنطقة فيما بينها.

وشكلت اتفاقية “سايكس بيكو” بين فرنسا وبريطانيا، ضربة قاسية لآمال السوريين في استقلال بلادهم، فعمّت المظاهرات الشعبية أنحاء الوطن معلنة رفضها لهذه الاتفاقية، وثورتها ضد المستعمر الجديد، وصمم السوريون على بناء جيشهم، ومقاومة أي اعتداء على بلادهم.

فأرسلت فرنسا حملة عسكرية الى بيروت استعدادا لاحتلال سوريا، ووجه الجنرال غورو قائد هذه الحملة، إنذاره الشهير الى الحكومة في دمشق بتاريخ 14 حزيران عام 1920، طلب فيه قبول الانتداب الفرنسي، وتسريح الجيش السوري، والموافقة على احتلال القوات الفرنسية لمحطات سكك الحديد في رياق وحمص وحلب وحماة.

وقوبل إنذاره برفض واستنكار السوريين، وأقبلوا على التطوع إلى جانب جيشهم حديث العهد، وعلى حمل السلاح للدفاع عن وطنهم، وبدأت الأحياء في معظم المناطق السورية، بتنظيم قوات محلية للحفاظ على الأمن، استعداداً لأي مواجهة مع الفرنسيين.

ملحمة ميسلون

لم ينتظر غورو انتهاء مدة إنذاره، وتحرك بقواته نحو دمشق مما دفع بوزير الحربية آنذاك يوسف العظمة الى التصدي للقوات الغازية على رأس جيش مؤلف من اربعمائة جندي، وعدد من المتطوعين ليخوض معركة الدفاع عن تراب الوطن في ميسلون، حيث استبسل السوريون في معركة غير متكافئة استشهد فيها يوسف العظمة وعدد كبير من رفاقه دفاعا عن دمشق.

ومنذ بدء الاحتلال، لم تتوقف مقاومة السوريين للمحتل الفرنسي الذي عمد إلى تقسيم سورية لعدة دويلات بغية إضعاف وحدتها، واثارة النزعات الاقليمية والطائفية فيها، وعمل على إلغاء اللغة العربية وفرض اللغة الفرنسية في مدارسها، واعتمد سياسة تكميم الأفواه وكبت الحريات، والسيطرة على الاقتصاد وفرض الضرائب المرتفعة على الشعب.

ولكن الشعب السوري لم يرضخ، وقام بثورات عديدة شملت جميع أنحاء البلاد، وعبرت عن رفضه للاستعمار وتحديه له.

ثورة الشيخ صالح العلي

بدأت ثورة الشيخ صالح العلي بالتصدي لقوات الانتداب الفرنسي منذ أن بدأت بالانتشار، على طول الساحل السوري في تشرين الثاني 1918، واستمرت في جبال المنطقة الساحلية حوالي أربع سنوات، وكانت أهم معاركها في قرية سلمى، وقرية ترتاح، والشيخ بدر، ووادي الورور، وبيدر غنام، واحتلال قلعة المريقب في 21 تموز 1919.

معركة تل كلخ

في أوائل كانون الأول 1919، اصطدم بعض أهالي بلدة تل كلخ مع رجال الحامية الفرنسية بسبب إصرارها على رفع العلم الفرنسي على دار الحكومة، تحت ذريعة أن البلدة تتبع “المنطقة الغربية” التي وضعت تحت الإدارة الفرنسية، بينما أصر الأهالي على إبقاء العلم العربي، رمزاً لتبعيتهم إلى حكومة دمشق العربية.

وهاجم الأهالي المخفر الفرنسي وأصابوا قائده وقتلوا معاونه، وشكلوا لجنة دفاع وطني لتنظيم عمليات المقاومة التي استمرت بعد ذلك.

ثورة المنطقة الشمالية

بدأت الثورة في المنطقة الشمالية الغربية على شكل أعمال مسلحة قام بها صبحي بركات وشقيقه وآخرون، وكانت أهم المعارك التي قادها هؤلاء معركة “السويدية” في شهر أيار 1919، حيث تكبد فيها الفرنسيون خسائر فادحة، واستشهد تسعة من المجاهدين.

ثورة إبراهيم هنانو

أعلن ابراهيم هنانو الثورة ضد الفرنسيين في أواسط شهر أيلول 1920، في بيان موجه إلى الشعب للمشاركة فيها، وطلب في بيانه من قناصل الدول الأجنبية التدخل للحد من فظائع الفرنسيين في سورية.

وبعد نشر البيان بعدة أيام اتفق الشيخ صالح العلي هع هنانو، على التنسيق بين الثورتين، وعلى أن تقوم ثورة المنطقة الشمالية باحتلال بلدة جسر الشغور لكي تتصل الثورتان جغرافياً.

معركة منطقة الفرات

قام أفراد من القبائل، وخاصة من أبناء عشيرة العقيدات وعشيرة العنابزة، بمهاجمة الحامية الفرنسية في مطار دير الزور، وأحرقوا إحدى الطائرات الفرنسية الجاثمة على أرض المطار، وقتلوا عدداً من الحراس، ثم نزلوا إلى المدينة وهاجموا المراكز الإدارية والأمنية التي كان يحتمي الفرنسيون فيها.

معركة الكفر

بعد قيام ثوار جبل العرب بإحراق دار البعثة الفرنسية في بلدة صلخد، توجهت حملة فرنسية إلى جنوب الجبل لتعيد هيبة السلطة الفرنسية، وللقبض على سلطان الأطرش.

وفي يوم 20 تموز 1925عام أقام قائد الحملة الكابيتين نورمان مخيمه قرب نبع قرية الكفر.

فشنّ الثوار عليها هجوماً كاسحاً، أسقط كامل أفرادها بين قتيل وجريح، وتمكنت من النجاة جماعة كانت مكلفة بمهمة سخرة في القرية، واستجار أفرادها بمختار القرية الذي أجارهم، ثم أطلق سراحهم ليخبروا قادتهم بما حدث.

معركة المزرعة

بعد معركة الكفر، توجه الجنرال ميشو على رأس حملة ضخمة إلى الجبل لفك الحصار عن حامية قلعة السويداء، وإعادة هيبة الحكومة الفرنسية في المنطقة.

فتعرضت الحملة لنيران المجاهدين المرابطين في المناطق الصخرية المحاذية لطريقها، إلى أن وصلت إلى موقع المزرعة، الذي يبعد عن السويداء حوالي 17 كم.

فقام سلطان الأطرش بإبقاء قوة ضئيلة لمتابعة حصار القلعة، وتوجه مع بقية الثوار إلى موقع المزرعة.

وفي فجر الثالث من آب هاجم المجاهدون الحملة بما تيسر لهم من البواريد، السيوف والخناجر، ومناجل الحصاد.

وبحلول المساء تبعثرت الحملة، وفقد ميشو سيطرته عليها، فأعطى الأمر بالانسحاب تاركاً في ساحة المعركة أكثر من ألف قتيل، وخسر المجاهدون حوالي مئة وخمسين شهيداً.

ووصفت بعض المصادر الفرنسية هذه المعركة بأكبر كارثة تعرضت لها القوات الفرنسية العاملة في سورية طيلة أيام الثورة السورية.

وبعد معركة المزرعة ارتفعت معنويات ثوار الجبل، وسعت قياداتهم إلى إيجاد واجهة سياسية لثورتهم، فتواصل سلطان الأطرش مع الوطنيين في دمشق، ومنهم عبد الرحمن الشهبندر ونزيه المؤيد العظم، واتفقوا على امتداد الثورة إلى دمشق، ووضع خطط موحدة للدفاع عن البلاد، والوقوف في وجه المحتل الأجنبي بالتعاون بين زعماء النضال السياسي وقادة الكفاح المسلح في مختلف أنحاء سوريا، واعتمد سلطان الأطرش قائداً عاماً للثورة السورية الكبرى، وتوجه الشعب السوري ببيان الثورة الشهير الذي أصدره يوم 23 آب 1925.

معركة حاصبيا وراشيا

وسارت لهذه الغاية انطلقت حملة من المجاهدين بقيادة حمزة الدرويش، إلى قرية حاصبيا، واحتلتها دون أية خسائر، ولكنها فقدت أربعة شهداء عند احتلالها لقرية كوكبا في اليوم التالي، وزحف المجاهدون باتجاه بلدة راشيا ودخلوها، وحاصروا قلعتها، ثم انسحبوا منها بعد وصول النجدات الفرنسية الضخمة.

ثورة دمشق والغوطتين

تمكنت الثورة في دمشق والغوطتين من إجبار الفرنسيين على الاحتماء ضمن أسوار مدينة دمشق دون الخروج منها، إلى أن تلقوا نجدات عسكرية كبيرة من المغرب ومن فرنسا، وقرروا ضرب الثوار المتمركزين الغوطة، ووجهوا إليها قوات عسكرية ضخمة، واجهها المجاهدون ببسالة، وانتقلوا من حالة الدفاع إلى الهجوم، وانقضوا على قرية كفر بطنا، وقضوا على الفرنسيين فيها بالقنابل اليدوية والسلاح الأبيض.

وسقط من الفرنسيين في هذه المعارك ما يزيد عن مئة قتيل، ومئتي جريح.

رفض اتفاقيات الإذعان

بعد استسلام ألمانيا نهاية الحرب العالمية الثانية، في شهر أيار من عام 1945، أقام الجيش الفرنسي احتفالات بمدينة دمشق طاف خلالها الجنود الفرنسيون في شوارع المدينة احتفالاً بحلول السلام، فقابل الدمشقيون هذه الاحتفالات باحتجاجات شعبية هتفت بالحرية والاستقلال، وطالبت بجلاء الجيش الفرنسي عن سوريا.

وبعد عشرة أيام من تلك الاحتجاجات، طلب المندوب الفرنسي من الحكومة السورية التوقيع على اتفاقيات، تتعلق الأولى منها بضمان استقلال المنشآت الثقافية الفرنسية، والثانية بصيانة مصالح فرنسا الاقتصادية في المنطقة، والثالثة بتأسيس قواعد جوية وبحرية لها على الأراضي السورية، مع الاحتفاظ بتبعية تلك القواعد لفرنسا.

في اليوم التالي اجتمعت الحكومتان السورية واللبنانية في شتورة بمحافظة البقاع غربي لبنان، وقررتا رفض هذه الاتفاقيات، والاحتجاج لدى الحكومة الفرنسية على إنزال الجيش الفرنسي بجنوده السنغاليين في سوريا ولبنان.

وأيد مجلس النواب السوري بجلسة حماسية موقف الحكومة، ورفض إعطاء فرنسا مركزاً سياسياً ممتازاً في سوريا التي صارت مستقلة، واعترف باستقلالها كل من الاتحاد السوفيتي القائم حينها وأمريكا وبريطانيا، بالإضافة إلى اعتراف فرنسا نفسها بذلك.

امتداد الاحتجاجات

ويبدو أن حماسة النواب خلال جلسة البرلمان، ورفضهم لاتفاقيات الإذعان، انتقلت إلى الشارع، حيث خرج أهالي دمشق بمظاهرات رافضة لهذه الاتفاقيات، ومطالبة بالاستقلال.

وتكررت المظاهرات في اليوم التالي، وترافقت مع إضراب طلاب المدارس والمعاهد والجامعات السورية امتد إلى حمص وحماة.

وتخللت المظاهرات أعمال معادية للمظاهر الفرنسية في المدن السورية، كنزع لافتات المحلات التجارية المكتوبة باللغة الفرنسية، وحرق الكتب الفرنسية أمام دار الحكومة.

وفي اليوم الثالث من المظاهرات، أُحرقت عدد من الآليات والمكاتب الفرنسية، وسحبت فرنسا موظفيها إلى أماكن آمنة هرباُ من انتفاضة دمشق الشاملة.

حامية البرلمان تدفع ثمن الاستقلال

خلال انعقاد جلسة المجلس النيابي في التاسع والعشرين من شهر أيار عام 1945، فوجئت دمشق بإطلاق النار من الثكنات العسكرية والمواقع التي كان يشغلها الجيش الفرنسي، ولم يتوقف القصف طوال الليل، وفي اليوم التالي من القصف، طلب ضابط فرنسي من حامية البرلمان السوري تقديم التحية للعلم الفرنسي المرفوع على دار الأركان الفرنسية الذي كان مقره مقابل مبنى البرلمان، وعندما رفضت حامية البرلمان تحية العلم الفرنسي، انهال الرصاص على مبنى البرلمان وعلى حاميته، واستشهد منها ثلاثون شرطياً، وهدم قسم من المبنى، ونهب الجنود السنغاليون بالجيش الفرنسي القسم الآخر، ومثلوا بجثث شهداء البرلمان.

آخر فصول الانتداب

بعد ذلك الاعتداء، تدخلت الحكومة البريطانية لحل الصراع بين فرنسا والحكومة السورية، وأسفر تدخلها عن مفاوضات ثلاثية أدت إلى تسلم السلطات السورية مسؤولية الثكنات العسكرية في البلاد، وإعادة تشكيل الجيش السوري.

وفي أيلول عام 1945، توصلت المفاوضات الثلاثية إلى رفع القضية لمجلس الأمن الدولي، مع تعهد فرنسا وبريطانيا بعدم استعمال حق النقض، فناقش المجلس القضية السورية، واتخذ في شهر شباط عام 1946 قراره بوجوب جلاء فرنسا عن سوريا.

ونفذت فرنسا قرار مجلس الأمن وسحبت آخر قواتها من سوريا في 17 من نيسان عام 1946، وصار هذا اليوم رمزاً للحرية في سوريا، واليوم الوطني للبلاد.

دروس.. وعبر

رسم الاستقلال الذي أنجزه ثوار سوريا وأحرارها، صفحة مشرقة في تاريخ هذا البلد العريق، وأثمر انجازات مهمة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والتعليمية وغيرها، وفتح المجال أمام تقدم البلاد، وسيرها بخطى ثابتة للحاق بركب الامم الاخرى.

ويبقى الأهم الذي حققه السوريون بعد استقلالهم، هو إنجازهم لمجتمع تسوده حالة متميزة من العيش المشترك بين كل أطيافه الدينية والمذهبية والعرقية.

وإنجازهم لحياة سياسية وبرلمانية متطورة، جعلت سوريا تقف بجدارة على أبواب الدولة المدنية، قبل أن تغتال هذا الحلم الانقلابات العسكرية المتتالية.