دمشق/ مرجانة إسماعيل
في صباح أحد أيام الأحد التي عادة ما يتخللها صوت الأجراس والآذان، ويستيقظ الدمشقيون على مشاهد الصلاة والطمأنينة، استيقظت العاصمة السورية على صوت انفجار مدوٍّ أمام كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة، حوّل صباح السلام إلى لحظة رعب شديدة، أعادت إلى الذاكرة الجماعية سنوات الحرب والموت والخوف، وزرعت مجدداً الشك في حقيقة الاستقرار الذي بدأت العاصمة تستعيده بعد أكثر من عقد من العنف والدمار.
الانفجار الذي وقع في الكنيسة، لم يكن مجرد حدث أمني عابر، بل كان صدمة عميقة هزت مشاعر السوريين جميعاً، مسيحيين ومسلمين، وأعاد طرح سؤال جوهري: هل تعافت دمشق فعلاً من تبعات الحرب، أم أن العنف لا يزال يتربص بها في زواياها الأكثر قدسية؟
لحظات الرعب على لسان الشهود
أبو محمد، رجل خمسيني من حي الميدان، كان في طريقه لشراء الخبز حين دوّى الانفجار. “كأن الأرض انشقت تحت قدمي”، يقول متأثراً، “تذكرت أيام الحصار والقصف، تلك اللحظات التي كنا نركض فيها إلى الملاجئ ونحن نحمل أطفالنا وأدويتنا في أكياس بلاستيكية”. لم يكن أبو محمد يخشى على نفسه بقدر خشيته على أبنائه الذين يرتادون مدرسة لا تبعد سوى أمتار قليلة عن موقع التفجير، مضيفاً: “كأن رعب الماضي عاد فجأة، وكأننا لم نغادر الحرب بعد”.
في الطرف الآخر من الشارع، كانت مريم، شابة مسيحية تعمل ممرضة في مستشفى قريب، تحضر قداس الأحد داخل الكنيسة لحظة وقوع الانفجار. “اهتزت النوافذ بعنف، وساد صمت مرعب لثوانٍ، ثم بدأت صرخات المصلين”، تروي مريم وهي لا تزال تحت وقع الصدمة. “خرجنا لنجد الدخان الأسود يتصاعد، ورائحة البارود تخنق أنفاسنا. لم أكن خائفة على نفسي بقدر ما فكرت بوالديّ المسنين، وهل ستعيد هذه الحادثة إليهما كوابيس الحرب الطويلة؟”.
الأمن النفسي يتصدع مجدداً
التفجير لم يكن ضربة للكنيسة فقط، بل لهدوء المدينة واستقرارها الهش. فخالد، وهو صاحب مقهى صغير في شارع بورسعيد، لاحظ منذ لحظة التفجير تراجعاً كبيراً في عدد الزبائن. “الناس صار عندها رهاب جديد”، يقول. “الشارع فرغ، الناس تخاف تروح على الأسواق أو المطاعم، الكل صاير يتوقع الأسوأ في أي لحظة، وكأننا نعيش تحت تهديد مستمر غير مرئي”.
هذا التأثير النفسي انعكس أيضاً على النشاط الاقتصادي والاجتماعي في المدينة. الأسواق خفتت، والتجمعات العائلية تراجعت، والحذر عاد ليسيطر على يوميات الناس. “كأننا رجعنا إلى نقطة الصفر”، تقول أم علي، معلمة متقاعدة من حي القصاع، مضيفة: “كنا نقول إن الأسوأ انتهى، لكن هذا التفجير بيقول لنا: لا ترتاحوا، الخطر ما زال قائم”.
ولم يكن الدمار المادي الأشد إيلاماً في هذه الحادثة، بل الرسالة التي حاولت ضرب ما تبقى من نسيج التعايش بين أبناء العاصمة. في أحياء دمشق القديمة، مثل باب توما والقصاع والميدان، اعتاد السكان من مختلف الطوائف العيش جنباً إلى جنب، يتشاركون الفرح والحزن، ويتبادلون الزيارات في الأعياد، الإسلامية والمسيحية على حد سواء.
“الكنيسة كانت تصلي، والجامع بجوارها كان يؤذن، وهذا مشهد معتاد هنا، لا يلفت النظر لأنه طبيعي”، يقول أبو زيد، وهو جار مسلم للكنيسة المتضررة. “اليوم، نحاول أن نقول لمنفذي هذا الهجوم: نحن سنبقى معاً، لن تفرقونا، لأن هذه الشراكة أعمق من أن تمحوها قنبلة”.
ردّ شعبي يرفض الخوف
ورغم قسوة المشهد، لم تستسلم دمشق للخوف. فقد سارع العشرات من شباب الحي، من مختلف الانتماءات، إلى موقع الانفجار للمساعدة في إزالة الأنقاض وتنظيف محيط الكنيسة، في رسالة تحدٍ واضحة للمجرمين، ولتأكيد وحدة الشارع الدمشقي. وشوهد سكان مسلمون يقدمون المساعدة في ترميم الكنيسة، ويواسون جيرانهم المسيحيين، في مشهد أعاد إلى الأذهان أوقات التضامن الشعبي خلال أصعب أيام الحرب.
ورغم هذه الروح الإيجابية، تبقى المخاوف قائمة من عودة العنف إلى قلب العاصمة. يقول المحلل السياسي كمال الحسن إن “ما حدث أمام كنيسة مار إلياس لا يمكن فصله عن السياق الإقليمي والسياسي، خاصة مع تصاعد التوترات في عدد من الجبهات السورية”، مشيراً إلى أن “الرسالة من هذا التفجير هي واضحة: لا استقرار حقيقي بعد، ولا أمن دون معالجة جذرية”.
ويضيف: “السلام الحقيقي لا يتحقق بإغلاق الشوارع أو بوضع الحواجز، بل ببناء الثقة، ومعالجة المظلومية، وتعزيز دولة القانون والمواطنة، وهو ما لا يزال غائباً في المشهد السوري”.
ويُعدّ هذا التفجير بمثابة ناقوس خطر، ليس فقط للأجهزة الأمنية، بل لصناع القرار في سوريا. فالحفاظ على ما تبقى من سلم أهلي ومشهد تعايشي يتطلب أكثر من مجرّد بيانات إدانة، بل خطوات فعلية في المسار السياسي والاجتماعي، تبدأ بإعادة بناء الثقة بين الحكومة والمواطن، وبين مكونات المجتمع نفسه.
فالأمن، كما يقول الحقوقيون، لا يُقاس بعدد الحواجز، بل بشعور الإنسان بأنه آمن في بيته، في شارعه، وفي مكان عبادته. وكنيسة مار إلياس، التي ضُربت صباح الأحد، كانت إحدى رموز هذا الشعور، وحين تسقط رموز الأمن الروحي، تتصدع جدران الأمان في قلوب الناس.
في الختام، فإن تفجير كنيسة مار إلياس لم يكن مجرد اعتداء إرهابي على مبنى ديني، بل كان صفعة قوية لفكرة دمشق المتصالحة، ولصورة سورية التي تحاول النهوض من تحت الركام. وإذا لم تُعالج جذور هذا العنف، ولم تُحمَ مساحات التعايش، فإن الطريق نحو التعافي سيظل محفوفاً الخطر، وسيظل الدمشقيون يتساءلون مع كل فجر جديد: هل عاد الليل الطويل؟.