لكل السوريين

كيف تأثرت الأسواق السورية بالحرب الإيرانية الإسرائيلية؟

تحقيق/ مرجانة إسماعيل

شهدت الأسواق السورية على مدار الأسبوع المنقضي تداعيات متسارعة للتوترات الإقليمية التي اجتاحت المنطقة نتيجة التصعيد بين إيران وإسرائيل، حيث لم يعد الاقتصاد السوري بمنأى عن ارتدادات هذه الأحداث الجيوسياسية الخطيرة. لقد بدأت ملامح هذا التأثير تظهر بوضوح في مختلف القطاعات، بدءاً من ارتفاع أسعار السلع الأساسية ومروراً بتقلبات سوق الصرف ووصولاً إلى تراجع حركة التجارة وانهيار معنويات المستثمرين. وفي خضم هذه الأجواء المشحونة، يحاول الشارع السوري استيعاب حجم هذه التطورات وتبعاتها المحتملة، بينما تتصاعد وتيرة القلق بشأن مستقبل اقتصادي يعاني أصلاً من تحديات هيكلية عميقة، مما يجعل أي اضطراب إقليمي، كبيراً كان أم صغيراً، عاملاً إضافياً يهدد بزعزعة الاستقرار الهش الذي يتمسك به البلد بأظافره.

وفي قلب العاصمة دمشق، حيث تزدحم الأسواق وتتنوع الأصوات بين بائعين ومشترين، تروي أم محمد، وهي سيدة في الخمسينيات من عمرها تعيل أسرتها بمفردها بعد فقدان زوجها في الحرب، كيف تحولت حياتها إلى جحيم بسبب الارتفاع الجنوني في الأسعار. تقول وهي تمسك بيد ابنتها الصغيرة: “كل يوم أسمع عن ارتفاع جديد في سعر الدولار، وأجد نفسي عاجزة عن شراء أبسط الاحتياجات. قبل أسبوع، كان كيس الخبز يكفينا لأيام، والآن أصبحنا نقتسم رغيفاً واحداً على العشاء.” قصتها ليست الوحيدة، ففي سوق الحميدية، حيث كانت رائحة البهارات والقهوة تعبق بالأجواء، أصبح الحديث عن الأسعار هو الهاجس الوحيد الذي يشغل بال الجميع.

لقد شهد سعر الدولار في سوريا ارتفاعاً صاروخياً أمام الليرة خلال الأسبوع الماضي في السوق الموازية (السوداء)، بينما بقي سعره في التعاملات الرسمية ثابتاً، وفقاً لنشرة “مصرف سوريا المركزي”. ففي الوقت الذي تراجع فيه سعر الليرة السورية في السوق السوداء في عموم المحافظات السورية مقابل الدولار الأميركي، وفق موقع “الليرة اليوم”، وصل سعر الدولار في أسواق دمشق إلى نحو 9,875 ليرة للشراء، و9,950 ليرة للبيع. ومع ذلك، أبقى المصرف المركزي سعر الصرف الرسمي عند 11,000 ليرة للشراء و11,055 ليرة للبيع، مما خلق فجوة كبيرة بين السوقين الرسمي والموازي، وزاد من معاناة المواطنين الذين يعتمدون على التحويلات المالية من الخارج أو يستوردون سلعاً أساسية.

وفي هذا السياق، أكد عضو غرفة التجارة في دمشق، حسن العبد الله، أن التصعيد العسكري الأخير بين إيران وإسرائيل ألقى بظلاله الكثيفة على الواقع الاقتصادي في سوريا، حيث انعكست التوترات الإقليمية بشكل مباشر على حركة السوق الداخلية، مما تسبب في موجة غير مسبوقة من الارتفاع في أسعار المواد الأساسية، حتى قبل حدوث أي خلل فعلي في الإمدادات أو انقطاع حقيقي في سلاسل التوريد. وأضاف العبد الله أن طبيعة السوق السورية شديدة الحساسية تجاه أي تطورات سياسية أو أمنية في الإقليم، نظراً لاعتماد البلاد الكبير على الاستيراد، خاصة بعد التراجع الحاد الذي شهدته البنية الإنتاجية المحلية خلال سنوات الحرب الطويلة.

وفي حي الميدان، حيث يعمل أبو علي كبائع للخضار منذ أكثر من ثلاثين عاماً، يروي كيف تحولت تجارته الصغيرة من مصدر رزق إلى مصدر قلق دائم. يقول: “كنت أستطيع تأمين حاجات أسرتي وبعض الكماليات أحياناً، لكن الآن أصبحت أفكر عشر مرات قبل شراء كيلو الطماطم. الناس لم تعد تقدر على الشراء، وأنا لم أعد أقدر على البيع.” هذه الحكاية تعكس واقعاً مريراً يعيشه آلاف التجار الصغار الذين يجدون أنفسهم عاجزين عن مجاراة التقلبات السريعة في الأسعار.

ولم تقتصر التداعيات على الأسعار فحسب، بل امتدت إلى معنويات المستهلكين والمستثمرين على حد سواء. فوفقاً للعبد الله، فإن الأنباء المتعلقة باحتمالات توسع النزاع أو إغلاق الممرات البحرية دفعت شريحة واسعة من التجار والمستهلكين إلى حالة من القلق والترقب، مما أسفر عن موجة طلب مبكر على السلع، تحسباً لنقص متوقع أو ارتفاع أكبر في الأسعار. وقد فتح هذا الباب أمام بعض المحتكرين لاستغلال الموقف لتحقيق أرباح غير مشروعة، حيث لجأ العديد منهم إلى تخزين السلع الأساسية لبيعها لاحقاً بأسعار مضاعفة.

وأشار العبد الله إلى أن الأثر النفسي للأزمة لعب دوراً محورياً في زعزعة استقرار السوق، حيث سارع عدد من المستوردين إلى إعادة تقييم تكاليف الشحن والتأمين، تحسباً لحدوث اضطرابات محتملة في حركة الملاحة أو ارتفاع في أسعار الوقود والنقل. وقد انعكس هذا بشكل فوري على أسعار الجملة، حتى دون أن تُسجّل تكاليف فعلية جديدة على الأرض بعد. وأضاف أن التجار يتصرفون في الغالب وفقاً لتوقعاتهم بشأن المستقبل، لا بناءً على المعطيات الآنية فحسب، الأمر الذي يجعل السوق عرضة للتقلبات المتسارعة بفعل العوامل الخارجية.

وفي حي القصاع، تعيش سميرة، وهي أم لثلاثة أطفال، حالة من الذعر اليومي بسبب عدم قدرتها على توفير الأدوية لابنها المصاب بمرض مزمن. تقول: “كل يوم أذهب إلى الصيدلية وأجد سعر الدواء قد ارتفع مرة أخرى. حتى الأدوية المحلية لم تعد في المتناول.” هذه المعاناة اليومية ليست سوى جزء بسيط من الصورة الكبيرة التي يعيشها ملايين السوريين الذين أصبحوا رهائن لتقلبات الاقتصاد وسياسات الدول الكبرى.

ولم يغفل عضو غرفة التجارة الإشارة إلى أن هذه الممارسات، بما في ذلك التخزين والمضاربة، ليست مجرد ردود فعل فردية، بل هي ظواهر تتكرر مع كل أزمة إقليمية، مما يستوجب تدخلاً عاجلاً وحازماً من الجهات الرقابية لضبط السوق. وأكد أن غرفة التجارة تتابع عن كثب المستجدات الإقليمية، وتقدم توصيات واضحة للسلطات بضرورة التشديد على مراقبة حركة الأسعار، وضبط عمليات التخزين التي يلجأ إليها بعض التجار بهدف رفع الأسعار بشكل مصطنع، فضلاً عن مكافحة مظاهر الاحتكار التي تزداد حدتها مع كل تصعيد عسكري أو سياسي في المنطقة.

وبيّن العبد الله أن تكرار الأزمات الإقليمية بات يتطلب نمطاً جديداً من الاستعداد الاقتصادي، سواء عبر تعزيز المخزون الاستراتيجي من المواد الأساسية، أو من خلال تطوير آليات رصد ومتابعة سريعة لتغيرات السوق. وشدد على أن ترك السوق في مواجهة مفتوحة مع الأخبار السياسية دون أدوات استجابة سريعة وفعالة يجعلها عرضة للاختلال والفوضى.

وأكد العبد الله على أن استقرار السوق لا يرتبط فقط بوفرة السلع، بل كذلك بثقة المستهلك والتاجر في قدرة الدولة على إدارة الأزمات. وطالب بتفعيل أدوات التدخل السريع، والتواصل المباشر مع الفعاليات التجارية والصناعية، لضمان عدم تحويل المخاوف السياسية إلى وقود لأزمة اقتصادية جديدة تضرب معيشة السوريين.

وفي 13 حزيران/ يونيو الجاري، أعلنت إسرائيل إطلاق عملية حملت اسم “الأسد الصاعد”، وقالت إنها تهدف إلى تدمير البرنامج النووي الإيراني، وقدرته على إطلاق الصواريخ الباليستية. في حين ذكرت مصادر أمنية إسرائيلية أنّ هذه العملية تستمر لأسابيع. ومن جانبها، توعدت إيران برد قاسي على هجمات الجيش الإسرائيلي، وأعلنت عن إطلاقها عملية “الوعد الصادق3”. وتصاعدت أجواء الحرب بين الطرفين، حيث تشن إيران هجمات بمئات الصواريخ والمسيرات، بينما تكثف إسرائيل غاراتها على أجزاء واسعة، مستهدفة مطارات وبنى تحتية ودفاعات جوية، وسط تهديدات متبادلة بين الجانبين.

وفي ظل هذه الأجواء المشحونة، يبقى السوريون العاديون، مثل أم محمد وأبو علي وسميرة، هم من يدفعون الثمن الأكبر. فبينما تتقاتل القوى الإقليمية والدولية على النفوذ والمصالح، يعيش الشعب السوري على وقع أزمات متتالية تهدد بقاءه اليومي. فهل من مخرج من هذا النفق المظلم؟ سؤال يتردد في أذهان الجميع، بينما تزداد الأحوال قسوةً يوماً بعد يوم.

- Advertisement -

- Advertisement -