لكل السوريين

انخفاض منسوب نهر الفرات في سوريا… أزمة شاملة تهدد حياة الملايين

تعيش شمال شرقي سوريا على وقع أزمة مائية متفاقمة مع استمرار انخفاض منسوب نهر الفرات، الشريان المائي الأهم في البلاد. أزمة لم تعد محصورة في قطاع الري أو الطاقة، بل تحولت إلى تهديد متعدد الأبعاد يمسّ الأمن الغذائي، والصحة العامة، والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لملايين السكان الذين يعتمدون على النهر في مختلف نواحي حياتهم.

ووصل منسوب نهر الفرات في سوريا إلى أدنى مستوياته منذ عقود. تدفقت المياه خلال الأشهر الماضية بمعدل لا يتجاوز 200 متر مكعب في الثانية، وهو أقل بكثير من المعدل المتفق عليه سابقًا والبالغ 500 متر مكعب في الثانية. هذا الانخفاض تسبب بهبوط حاد في مستوى بحيرة سد الفرات بأكثر من 5.5 أمتار، ما أدى إلى فقدان 4 مليارات متر مكعب من المخزون المائي، بحسب تقديرات محلية.

مع انخفاض المياه، تقلّصت قدرة سد الفرات – أكبر منشأة لتوليد الكهرباء في شمال سوريا – على العمل، لتقتصر ساعات التغذية الكهربائية على ساعتين يوميًا في بعض المناطق. السدان الآخران، الحرية وتشرين، توقفا تقريباً عن العمل. هذا الانهيار في توليد الطاقة انعكس سلباً على تشغيل مضخات الري، والمرافق العامة، والمراكز الصحية، والمخابز، والمنشآت الصناعية، في مشهد يهدد بانهيار شبكات الخدمات الأساسية.

اقتصاد على حافة الانهيار

تشكل المناطق الواقعة على ضفاف الفرات، مثل الرقة ودير الزور، أهم الحقول الزراعية في البلاد. إلا أن نقص المياه أجبر المزارعين على تقليص زراعاتهم، حيث انخفضت المساحات المزروعة بنسبة 37% مقارنة بالموسم الماضي. اختفت محاصيل رئيسية مثل الذرة والقطن في أجزاء واسعة، وتحولت آلاف الهكتارات إلى أراضٍ بور، مع تصاعد نسبة تملح التربة في بعض المناطق بسبب نقص الري وسوء التصريف.

ومع انهيار منظومة الري، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية في الأسواق المحلية، وسط توقعات بتفاقم الأزمة الغذائية خلال الأشهر المقبلة، ما يزيد من هشاشة الأمن الغذائي في المنطقة.

لم تسلم البيئة من تداعيات هذه الأزمة. تراجعت الحياة المائية في مجرى الفرات، واختفت أنواع من الأسماك نتيجة انخفاض مستوى المياه وارتفاع درجات الحرارة. كما أدى جفاف البحيرات والفروع إلى تغيّرات بيئية حادة، بينها انبعاث روائح كريهة وانتشار غير مسبوق للحشرات والبعوض.

يُضاف إلى ذلك تدهور الغطاء النباتي على ضفاف النهر، وتراجع الإنتاج الحيواني نتيجة نقص الأعلاف والمياه، مما ينذر بكارثة بيئية شاملة في حال استمرار الانخفاض.

من أبرز ما يثير القلق هو الأثر الصحي المباشر للأزمة. يعتمد معظم سكان المنطقة على نهر الفرات كمصدر رئيسي لمياه الشرب والغسيل، وفي ظل التراجع الكارثي لمنسوب المياه وتدهور جودتها، ازدادت الإصابات بالأمراض المنقولة بالمياه مثل الكوليرا والتيفوئيد، بالإضافة إلى أمراض جلدية وتنفسية نتيجة تلوث الهواء والمياه، خاصة في المخيمات العشوائية.

تدهور خدمات الصرف الصحي وضعف الرقابة الصحية على المياه الواصلة للأهالي في بعض المناطق، فاقم من خطر انتشار الأوبئة، خصوصاً مع محدودية الإمكانيات الطبية في المراكز الصحية المحلية.

هجرة بسبب الفرات

الأزمة دفعت العديد من العائلات القاطنة على ضفاف النهر إلى النزوح نحو مناطق أخرى. قرى بأكملها في ريف الرقة أصبحت شبه مهجورة، مع انعدام إمكانية الحصول على مياه صالحة للشرب أو كهرباء. وتحوّل “العطش” إلى سبب رئيسي لهجرة السكان من مناطقهم.

ويرى مراقبون أن التحكم بمياه نهر الفرات أصبح أداة ضغط سياسية، في ظل تعقّد المشهد الإقليمي. إذ يترافق التراجع في المياه مع اتهامات موجهة إلى تركيا بخفض منسوب المياه المتدفقة إلى سوريا بشكل متعمد، عبر التحكم بسدود كبرى في أراضيها مثل سد أتاتورك وسد بيراجيك.

لكنّ مراقبين بيئيين يرون أن الأمر يتجاوز الظرف الطبيعي، حيث سُجل تراجع في تدفق المياه بنسبة تزيد عن 60% مقارنة بالمعدلات الطبيعية، ما يشير إلى تحكم متعمد في الحصة المائية التي تصل إلى الأراضي السورية.

ويهدد استمرار الأزمة بالمعدلات الحالية بتحويل شمال شرقي سوريا إلى منطقة منكوبة بيئياً وإنسانياً، خصوصاً في ظل ضعف القدرة المحلية على إيجاد بدائل مستدامة. ما يتطلب تدخلاً دولياً عاجلاً لإلزام الدول المعنية باتفاقيات المياه الدولية، وتفعيل آليات الرقابة، ودعم مشاريع الصرف والري المستدامة، مع تأمين بدائل للطاقة والمياه للسكان الأكثر تضرراً.

ما يحدث في نهر الفرات لم يعد مجرد “انخفاض موسمي”، بل أزمة ممتدة تهدد الحياة بكل معانيها. النهر الذي كان يوماً رمزاً للخصب والاستقرار، يتحول إلى مصدر قلق وحرمان، في ظل غياب حلول جذرية وغياب التنسيق الإقليمي. استمرار هذا المسار قد يقود إلى كارثة إنسانية وبيئية غير مسبوقة، لن تقف تداعياتها عند حدود سوريا فحسب، بل ستمتد إلى كامل المنطقة.

 

- Advertisement -

- Advertisement -