لكل السوريين

صراع طهران وموسكو على الكعكة السورية.. من الكواليس إلى العلن

بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية عليها، وضعف الدول الأوروبية في مواجهة القرار الأمريكي رغم إعلاناتها المتكررة بالتمسك بهذا الاتفاق، وعدم تنفيذها لبنوده، وخاصة الاقتصادية منها، بحثت إيران عن البدائل، وتوجهت نحو روسيا للتوسع بالشراكة الاقتصادية معها، خاصة وأنها تراها لاعباً أساسيا في الجهود المناهضة لواشنطن في الشرق الأوسط.

بدورها تنظر روسيا إلى إيران كحليف مهم لها في العالم متعدد الأقطاب الذي تسعى موسكو إلى تحقيقه بعد أن هيمنت الولايات المتحدة على القرار الدولي، وفرضت نظام القطب الواحد منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، فدعمت إيران في مجموعة من القضايا الهامة، وعرقلت العديد من القرارات في مجلس الآمن الدولي ضدها، ووافقت على انضمامها إلى منظمة التعاون في شنغهاي، وهي تحالف اقتصادي وأمني إقليمي، مما ساهم بالحد من عزلة إيران.

وتناغمت الجهود الروسية والإيرانية في مواجهة السياسة الأميركية الدولية، كما حدث في دعم فنزويلا التي تمردت على النفوذ الأميركي في أميركا الجنوبية.

نقطة التلاقي

في سوريا تلاقى الفريقان الروسي والإيراني بشكل مباشر واستمرت جهودهما في مجابهة النفوذ الأميركي في آسيا أيضاً.

ومع أن الهدف المعلن لقدوم كل منهما إلى سوريا هو محاربة الإرهاب، والوقوف إلى جانب الدولة السورية في مواجهة التحالف الذي أقامته الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية والخليجية، لإسقاط الدولة السورية، كما قيل آنذاك..

كان لكل منهما أهدافه الخاصة به التي عمل وما يزال يعمل على تنفيذها، بغض النظر عن مصالح الطرف الآخر.

فطهران حاولت أن تكسر الحصار المفروض عليها من خلال تواجدها في سوريا، وتعاملها المباشر مع الروس، وأن يحقق لها هذا التواجد فرصة لمواجهة الولايات المتحدة في مجالات أوسع من خلال ترسيخ أقدامها في الساحة السورية.

وموسكو ترى في سوريا الموقع الملائم للانطلاق منه في سعيها للعودة إلى دور اللاعب الرئيسي في العلاقات الدولية، واستعادة دورها في العالم متعدد الأقطاب كما كان خلال الحقبة السوفياتية.

كما ترى أن تواجدها في سوريا يخدم مصالحها الاقتصادية من خلال إيجاد ممر آمن لصادراتها النفطية من الغاز المسال عبر الموانئ السورية في البحر الأبيض المتوسط، ويبعد الخطر المتمثل بوصول الغاز القطري إلى أوروبا، وهو ما قد يساهم في كسر احتكار موسكو للسوق الأوروبية، ويؤدي إلى تراخي القبضة الروسية عن عنق الاقتصاد الأوروبي.

ومع مرور الوقت تبين أن كل ما هو مشترك، أو متناقض بين الدولتين على الساحة السورية، لا يقلل من رغبة كل منهما في الحصول على النصيب الأكبر من الكعكة السورية.

ومن هنا بدأ التنافس المكتوم بينهما.. قبل أن يظهر إلى العلن لاحقاً.

صراع مكتوم

بعد سيطرة الجيش السوري وحلفائه على المنطقة الجنوبية، في شهر تموز من العام الماضي، بدأ الصراع الخفي بين الروس من جهة، والإيرانيين وحلفائهم جهة أخرى بهدف تثبيت وتوسيع مناطق نفوذهما في تلك المنطقة.

فسعت إيران إلى ترسيخ تواجدها في المنطقة، وخاصة بعد التوافقات الدولية القاضية بضرورة إبعادها عن هذه المنطقة إلى أكثر من 40 كم من الحدود مع إسرائيل، فبدأت تتغلغل بالأرياف والمدن، وتتقرب من الشخصيات الاجتماعية الفاعلة فيها بهدف إنشاء كيانات عقائدية وعسكرية من أبناء المنطقة تكون ركائز لها في المنطقة.

كما حاولت بكل السبل تجنيد شباب التسويات والمصالحات التي تمت آنذاك في ألوية مستقلة تتبع لها، أو تجنيدهم في صفوف “الفرقة الرابعة” التي تقدم لها طهران كل أنواع الدعم.

نشاط إيراني ورد روسي

أغضب هذا التحرك الإيراني روسيا التي تقدّم نفسها كضامن للتوافقات الدولية المذكورة، ومشرف على المنطقة الجنوبية، فقامت بتوسيع الفيلق الخامس من خلال استقطاب عناصر التسويات والمصالحات إلى صفوفه بهدف تحجيم التواجد الإيراني في المنطقة.

واعتبر مراقبون أن اغتيال التي بعض الشخصيات العسكرية السابقة في درعا بعد سيطرة النظام عليها، جزء من الحرب الخفية بين إيران وروسيا لإبعاد هذه الشخصيات عن ساحة التنافس والاستقطاب.

وفي المنطقة الوسطى من سوريا التي تشكل أهمية خاصة للإيرانيين بصفتها صلة الوصل من إيران مروراً بالعراق ووصولاً إلى الحدود اللبنانية حيث تتواجد حاضنة حزب الله، بدأت مظاهر الصراع الروسي الإيراني تتوضح فيها، حيث وجه الروس ضربة موجعة لإيران عندما سلم المعتقل القائد السابق لما يسمى “لواء التوحيد” الريف الشمالي في حمص للقوات الروسية وانضم للفيلق الخامس المدعوم منها.

وفي المنطقة الشرقية رفضت روسيا التواجد الإيراني دون إشرافها، كما أدت الضغوط الدولية إلى تحجيم الدور الإيراني في المنطقة التي شهدت تراجع هذا الدور لصالح الدور الروسي البارز فيها.

الصراع من الكواليس إلى العلن

قبيل نهاية العام الماضي عبّرت روسيا بصراحة عن أنها لا تعتبر نفسها حليفة لإيران في سوريا، وقال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، إن الروس والإيرانيين يعملون معاً في سوريا، ولكنهم ليسوا حلفاء.

في مقابل هذا التصريح الروسي، شكك عضو لجنة السياسة الخارجية البرلمانية الإيرانية، حشمة الله فلاحت بيشه، السياسة الروسية علناً عندما قال “الجيش الإسرائيلي قد يكون لديه نظام للتنسيق مع بنى أنظمة الدفاع الجوي الروسية”.

ومنذ أواخر العام الماضي، بدأت روسيا بإعلان هذا الصراع بشكل أكبر مع إيران عندما استبعدت الميلشيات الإيرانية ونشرت الشرطة العسكرية الروسية في المناطق الساحلية، واعتقلت بعض القادة العسكريين الذين تعتقد أنهم موالون لإيران.

 

أميركا الحاضرة

لم تكن الولايات المتحدة غافلة عما يجري، بل عملت كل ما بوسعها من أجل عرقلة محاولات روسيا في مساعدة إيران بالتخفيف من الحصار المضروب عليها، والوقوف بوجه محاولاتها في العودة كلاعب دولي رئيسي، بما يكسر نظام القطب الواحد الذي فرضته الولايات المتحدة وتصر على استمراره، ومنعها من العودة إلى منطقة الشرق الأوسط التي تعتبرها واشنطن مجالاً لمصالحها فقط.

وخلال مساعيها بهذا الاتجاه حددت واشنطن أولوياتها بطرد أو تحجيم دور إيران في سورية أولاً، وإذا تم لها ذلك تتفرغ لتقليص الدور الروسي في سوريا أيضاً.

وهذا ما يفسر الرسائل التي تمررها الى الروس بأن طرد إيران من سورية يعزز دورهم فيها بموافقة أميركية، وبعدم استهدافها لروسيا سياسياً او عسكرياً في سوريا، في حين يتم استهداف قواعد ومراكز المستشارين الإيرانيين من خلال الغارات الاسرائيلية المتكررة عليها.

موسكو تلوم دمشق

النظام السوري يعرف أن وقوف الحلفاء إلى جانبه يستوجب تحقيق مصالحهم مهما بلغت، ولكنه يعتقد، فيما يبدو، أنه يستطيع الإفادة من جهودهم دون أن يتحول إلى مجرد منفذ لأوامرهم، ولذلك فهو يتجاوب مع طلباتهم غالباً، ولا يفعل أحياناً، وهو ما يزعج حليفه الروسي الذي يعبر عن ذلك بطريقة او بأخرى.

ويبدو الانزعاج الروسي أكثر وضوحاُ من سيطرة الإيرانيين على معظم جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية في سوريا، حيث يعتبر الروس أنفسهم أحق منهم بالحصول على الجزء الأكبر من الكعكة السورية.

كما تصاعدت لهجة اللوم الروسية على زيارة الأسد الأخيرة لطهران، وفسرتها موسكو على أنها رغبة منه في الحفاظ على مكاسب إيران في سوريا رغم رفض الكرملين.

وأكدت الصحف الروسية أن روسيا لم توافق على هذه الزيارة، ولم يتم التنسيق معها بشأنها، وهذا ما أثار غضب موسكو.

وقد أعاد بعض المراقبين تصرف الأسد إلى معرفته بأن حليفه الروسي لا يحتمل الفشل في سوريا، واعتقاده بأنه قادر على أن يتسبب بهذا الفشل، فلم يتردد في الاقتراب من حليفه الإيراني لمواجهة حليفه الروسي.

أصدقاء أم أعداء

تعاون روسيا مع إيران في الساحة السورية، وتنافسهما الخفي والمعلن إلى حد الصراع فيها، ورغبتهما المشتركة بالتواجد في العالم متعدد الأقطاب الذي تسعى روسيا لتحقيقه، يشكل علاقة بين الطرفين أكثر تعقيداً من مجرد التساؤل عن الصداقة أو العداوة بين طهران وموسكو.

روسيا وإيران.. لا أعداء ولا أصدقاء.. وكل منهما يسعى لتأمين مصالحه ولو تناقضت في بعض جوانبها مع مصالح الطرف الآخر، وبشكل كلي مع مصالح السوريين.

فبعد تدهور الوضع الاقتصادي في سوريا يخشى كل منهما من عدم قدرة النظام السوري على دفع أثمان عملياتهما فيها، وهو ما دفعه إلى تأجير ميناء اللاذقية لروسيا، وميناء طرطوس للجانب لإيران.

وخوفاً من انهيار الاقتصاد السوري، يبحث حلفاء الحكومة السورية عن كيفية استرداد هذه الأثمان.

وقد تسربت في العام الماضي أخبار تفيد بأن روسيا طلبت مبالغ كبيرة من الحكومة السورية، وعندما ردت الحكومة بعدم وجود مثل هذه المبالغ، توجهت عيون موسكو نحو رؤوس الأموال في سوريا، وكان حوت الاقتصاد السوري رامي مخلوف في مقدمة المستهدفين.

قضية مخلوف

نشر رامي مخلوف فيديو يستنجد فيه بالرئيس السوري من مضايقات الأجهزة الأمنية له، وما تتعرض له شركاته من ابتزاز، نافياً تهمة تهربه من الضرائب.

وأتبعه بفيديو آخر تضمن تهديداُ مبطناً بقوله “إذا استمر هذا المسار، ستكون الأوضاع في الدولة بغاية الصعوبة”، مؤكداً أنه لن يرضخ للضغوطات الرامية إلى تخليه عن ممتلكاته.

ظهور مخلوف على شبكات التواصل الاجتماعي، وحديثه عن الخلافات مع أصحاب القرار أظهر هذه الخلافات إلى العلن، وأكد أن أبواب القصر الجمهوري لم تعد مفتوحة له.

وجاء رد دمشق عليه بشكل غير مباشر، عبر بيان أصدرته الهيئة المنظمة للاتصالات والبريد تؤكد فيه أن المبالغ المطلوب سدادها من قبل الشركات الخليوية هي مبالغ مستحقة للدولة وفقاً لوثائق واضحة وموجودة.

وأثارت هذه القضية، التي صارت تعرف بقضية مخلوف، جدلاً واسعاً في الأوساط السورية، وخارجها.

وذهب المحللون في تفسيرها أكثر من مذهب، حيث أرجعها بعضهم إلى الوضع الاقتصادي للبلاد، وتراكم عليها الديون على الدولة، ورغبتها بجمع الأموال حتى من المحيطين بالرئيس، وفي مقدمتهم رامي مخلوف، الذي سيجرد من جزء كبير من ممتلكاته.

بينما ذهب محللون آخرون إلى أن نفوذ مخلوف الذي جمع ثروة هائلة وحقق نفوذاً إعلامياً وكون شبكة كبيرة من العلاقات التجارية والعسكرية المعقدة، أدخل الريبة إلى نفوس أصحاب القرار في دمشق، وجعله خطراُ يجب التخلص منه.

وكانت السلطات السورية قد قامت العام الماضي بتفكيك الجناح العسكري لجمعية البستان التابعة له، ويزيد تعدادها عن عشرين ألف مسلح.

التنافس الروسي الإيراني مرة أخرى

ولكن أكثر التحليلات رواجاً ذهبت إلى أن التوتر بين مخلوف والأسد، نتيجة للتنافس الروسي الإيراني، ونفوذ كل منهما داخل أروقة الحكومة السورية، وقدرته في التأثير على آليات صنع القرار، خاصة أن مخلوف محسوب على طهران، وأشارت هذه التحليلات إلى أن روسيا تريد التحكم برؤوس الأموال في البلاد ووضع يدها على جميع القطاعات الحيوية ومن أبرزها قطاع الاتصالات الذي تعد سيريتل‎ المملوكة لمخلوف هي المتحكم الأساسي به.

يذكر أن رامي مخلوف يملك العديد من الشركات في سوريا وخارجها، ويتحكم بأكثر من نصف الاقتصاد السوري منذ سنوات عديدة، وقد قدرت ثروته عام 2011 بأكثر من ثلاثة مليارات دولار، ولا شك في أنها تضاعفت عدة مرات خلال سنوات الأزمة السورية.

تقرير/ ل ـ ت