لكل السوريين

الساحل السوري بلا هوية قانونية.. تعطيل تسجيل الواقعات المدنية يرهق المواطنين

تقرير/ سلاف العلي

يشهد الساحل السوري أزمة متفاقمة بسبب تأخير تسجيل الواقعات المدنية للمواطنين، وسط غياب خطة واضحة وسقف زمني لإنهاء هذا التعطيل المستمر منذ أشهر. وتُعزى أسباب هذا التأخير إلى عدة عوامل، منها ضعف الوعي بأهمية التسجيل في الوقت المحدد، وصعوبة الوصول إلى المناطق النائية، وبطء الإجراءات في بعض الدوائر المدنية، بالإضافة إلى الغرامات المترتبة على التأخير، والتي تدفع البعض إلى عدم المبادرة بالتسجيل.

وقد أدى هذا التأخير إلى حرمان المواطنين من الحصول على حقوق مدنية أساسية، مثل إصدار بطاقات الهوية، وشهادات الميلاد، وتوثيق عقود الزواج أو الطلاق، إلى جانب صعوبات في استكمال إجراءات قانونية مهمة كتصاريح السفر، والإرث، وغيرها. ويؤكد المواطنون أن تقاعس الجهات المعنية في متابعة هذه المشكلة هو السبب الرئيس في استمرار الأزمة، حيث يدفع المواطن وحده ثمن هذا الإهمال الإداري.

وبعد أشهر من التوقف والتجاهل، أعلنت مديريتا الشؤون المدنية في طرطوس واللاذقية عن استئناف خدمة تسجيل الولادات الجديدة للمغتربين فقط، في حين بقي تسجيل الواقعات داخل البلاد معطلاً، دون أي مؤشرات على قرب حل الأزمة. القرار الذي وصفه كثيرون بالمتأخر، لم يشمل سوى شريحة ضيقة من المتضررين، وهم السوريون المقيمون في الخارج، بينما لا تزال آلاف العائلات في الداخل عاجزة عن تسجيل أولادها أو تحديث بياناتها المدنية المتعلقة بالزواج أو الطلاق أو الوفاة، وهو ما يترتب عليه آثار قانونية وحقوقية خطيرة.

وتجدر الإشارة إلى أن الجهات الرسمية لم تقدم أي اعتذار أو توضيح شفاف يبرر أسباب التعطيل المطول، مكتفية بتصريحات مبهمة عن “إهمال سابق” و”إصلاح الشبكة البرمجية”، ما اعتبره كثير من المتابعين تهرباً من المسؤولية، وتحميلاً غير مباشر للمواطنين تبعات الخلل الإداري والفني.

ومن أبرز نتائج هذا التقاعس، حرمان مئات الأطفال السوريين، خاصة في الخارج، من الحصول على “رقم وطني”، وهو الشرط الأساسي لاستخراج الأوراق الثبوتية، ما أدى إلى حرمانهم من الإقامة القانونية، والرعاية الصحية، والتعليم، والحق في الجنسية. أما في الداخل، فالوضع أكثر مأساوية، حيث تعيش آلاف الأسر في قلق قانوني دائم، بسبب عدم قدرتها على تثبيت أولادها أو تعديل أوضاعها المدنية، ما ينعكس سلباً على المعاملات اليومية للمواطنين، بدءاً من إصدار جوازات السفر، مروراً بالتأمينات، وانتهاءً بالإرث والميراث.

وكان من المتوقع، بحسب وعود مديري الشؤون المدنية في طرطوس واللاذقية، أن يتم استئناف تسجيل الواقعات مع بداية شهر أيار، إلا أن الموعد مضى دون تنفيذ، ما يعكس خللاً إدارياً وفنياً عميقاً، وتجاهلاً مستمراً لمعاناة الناس. ويؤكد مراقبون أن استمرار هذا التعطيل لم يعد مجرد مسألة فنية أو إجرائية، بل هو تعبير عن تقصير مؤسساتي في حماية حقوق الأفراد وضمان كرامتهم القانونية.

وفي السياق ذاته، يرى كثيرون أن الحكومة مطالبة بتحمّل مسؤولياتها الكاملة، بدلاً من التذرع بإصلاحات داخلية طال أمدها، فالوضع لم يعد يحتمل مزيداً من التراخي، والمطلوب اتخاذ خطوات فورية لاستئناف تسجيل كافة الواقعات، داخل وخارج سوريا، تجنباً لمزيد من التعقيدات والآثار السلبية التي يتحمل المواطن وحده كلفتها.

عقب سقوط النظام السوري، لم تكن المؤسسات المدنية بمنأى عن الانهيار، إذ تعرضت مبانٍ إدارية ومؤسسات حكومية عدة للتخريب، ومنها إدارة الهجرة والجوازات ومصرف سوريا المركزي، ما أثر بشكل مباشر على قدرة المواطنين على استخراج الوثائق الرسمية الأساسية، كإثبات الولادات والوفيات، وتثبيت الزواج أو الطلاق. وأثار هذا الوضع مخاوف وتساؤلات واسعة لدى المواطنين حول مصير السجلات المدنية والعقارية التي يعتمدون عليها لإثبات هويتهم وحقوقهم القانونية.

وقد خلقت هذه الأزمة الإدارية فراغاً قانونياً حقيقياً، خاصة لدى اللاجئين خارج البلاد، حيث يواجه آلاف السوريين صعوبات قانونية وإجرائية كبيرة، مما يحول المعاملات البسيطة إلى معارك قانونية طويلة، ويُحرم الأطفال من حقوقهم الأساسية بسبب غياب التوثيق الرسمي لوجودهم.

وفي هذا السياق، كثرت الشكاوى من المواطنين حول عدم قدرتهم على إنجاز أي معاملة تتعلق بالأحوال المدنية، نتيجة توقف مديرية “الشؤون المدنية” عن تسجيل الوقائع الجديدة وإصدار البطاقات الشخصية، مكتفية بإصدار بعض الوثائق التي يحتاجها المواطن لإنجاز معاملاته الأخرى في الدوائر الحكومية. وقد نتجت عن الفوضى التي أعقبت انهيار النظام السابق حرائق وتخريب، أثرت سلباً على مصير الوثائق المدنية التي تشكل الأساس القانوني لتنظيم حياة السوريين.

ومع غياب الوثائق الأصلية، أو صعوبة تصديقها من الجهات الرسمية، يجد المواطنون أنفسهم في حالة من الفراغ القانوني، ما ينعكس على حقوقهم الأساسية ويعطل حياتهم اليومية. ويتطلب الأمر من الحكومة الجديدة وقتاً وجهداً كبيرين لإعادة إنعاش المؤسسات المنهكة، في ظل وضع اقتصادي كارثي يعاني منه ملايين السوريين.

حالياً، تقتصر الخدمات على إصدار بعض الوثائق كإخراج القيد والبيان العائلي، بينما يبقى تسجيل الواقعات الجديدة متوقفاً إلى حين الانتهاء من عمليات صيانة وترميم شبكة البيانات، علماً أن الشبكة الحالية لا تسمح بتسجيل أو تخزين المعلومات بشكل آمن، خشية حدوث أخطاء تقنية مستقبلية.

ويرى مختصون أن من الضروري العمل على توعية المواطنين بأهمية تسجيل الواقعات المدنية في وقتها المحدد، من خلال حملات إعلامية أو نشرات توعوية في الدوائر الرسمية. كما يُوصى بتبسيط الإجراءات وتقليل أوقات الانتظار، وزيادة عدد الموظفين لتقديم خدمة أفضل، وتوفير وسائل النقل أو نقاط الخدمة المتنقلة لتسهيل وصول المواطنين في المناطق النائية إلى الدوائر المدنية.

يُذكر أن المواطنين في الساحل السوري لا يزالون بانتظار إعادة فتح باب التسجيل لواقعاتهم المدنية، كالولادات الحديثة وعقود الزواج والطلاق والوفيات، في سجلات المديرية العامة للأحوال المدنية، منذ توقفها في الثامن من كانون الثاني الماضي. وتُعدّ هذه الحالة غير المبررة تعبيراً عن فشل إداري واضح، لا سيما أن البرنامج المستخدم في الأحوال المدنية منذ عهد النظام السابق يُعتبر حديثاً ولم يُسجّل عليه أي أعطال سابقة.

ويُشار إلى أن هناك آلاف الولادات غير المسجلة في الساحل، منها ما يعود لأربعة أشهر، ما ينذر بتراكم كبير وازدحام شديد عند استئناف التسجيل. ورغم ترجيح البعض أن سبب التوقف هو العمل على توحيد تسجيل الواقعات في الساحل، خصوصاً في أرياف طرطوس واللاذقية، إلا أن الأسباب الحقيقية للتوقف ما تزال غير واضحة، وقد تم التأكيد على أن الغرامات لن تُفرض على من تأخر في التسجيل نظراً لكون التأخير خارج إرادتهم.

ويثير استمرار تسجيل دعاوى الزواج والطلاق في المحاكم الشرعية تساؤلات إضافية، إذ لا يوجد مبرر لوقف تسجيلها في الأحوال المدنية، وهو ما يعزز المطالب بضرورة فتح باب التسجيل بسرعة تفادياً لتراكمات يصعب ضبطها لاحقاً. كما أن تعطيل تسجيل ملكية العقارات من بيوت وسيارات يُلقي بظلاله السلبية على الدورة الاقتصادية، خاصة مع صدور قرارات قضائية بنقل الملكية دون تنفيذ فعلي بسبب التوقف، ما يستدعي تدخلاً حكومياً عاجلاً لإنهاء هذه الأزمة المتعددة الأبعاد.