حمص/ بسام الحمد
كان لسكان تدمر القديمة، وهي مدينة تجارية ثرية تقع آثارها في سوريا الحديثة، عادات دفن فريدة من نوعها، وكانت التماثيل النصفية التدمرية المنحوتة بشكل رائع لها طريقة فريدة لتصوير المتوفى والحفاظ على صورته على مر القرون، وبفضل المهارة في تم نحتها بها، يمكننا اليوم أن نتعلم الكثير عن هذه الثقافة القديمة، ونرى وجوه الأشخاص الذين عاشوا منذ آلاف السنين.
في سوريا، تركت حضارات عدة، من الكنعانيين إلى الأمويين، مروراً باليونانيين والرومان والبيزنطيين، تراثاً شاهداً عليها. وكانت البلاد تفخر بمواقعها الأثرية في تدمر وحلب وإدلب ودرعا ودمشق والرقة، وغيرها.
لم تغير عشر سنوات من الحرب وجه سوريا عبر تدمير حاضرها وتهديد مستقبل شعبها فحسب، بل أتت على معالم أثرية عريقة وقضت على تراث رمزي ثمين من دون رجعة.
وقد يكون النزاع الذي اندلع في سوريا في آذار 2011، أنتج الكارثة الإنسانية الأسوأ خلال القرن الماضي، لكن الهمجية التي ضربت التراث الثقافي أسوأ ما مر أيضاً على أجيال كثيرة.
خلال سنوات قليلة، تحولت مدن قديمة إلى ساحات قتال، وتحولت الأسواق الأثرية إلى دمار، ونهبت قطع من مواقع أثرية أو متاحف كانت تحفظ بين جدرانها روايات من التاريخ.
يعود تاريخ مدينة تدمر المعروفة بـ”لؤلؤة الصحراء”، أو “عروس البادية”، إلى أكثر من 2000 عام، وهي مدرجة على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) للتراث العالمي الإنساني.
في عام 129، منح الأمبراطور الروماني أدريان تدمر وضع “المدينة الحرة”. وعرفت آنذاك باسمه “أدريانا بالميرا”، وعاشت عصرها الذهبي في القرن الثاني بعد الميلاد.
عرفت المدينة أوج ازدهارها في القرن الثالث في ظل حكم الملكة زنوبيا التي تحدت الإمبراطورية الرومانية.
لكن وحشية “داعش” خربت المدينة، فدمر الإرهابيون تمثال أسد أثينا الشهير، ومعبدي بعل شمين وبل، بالمتفجرات، كما قضوا على عدد من المدافن البرجية، وحولوا قوس النصر الشهير إلى رماد.
ولم تقتصر آثام التنظيم على تدمير آثار المدينة فحسب، إذ ارتكب عناصره أشنع الجرائم فيها. واستخدموا المسرح الروماني لتنفيذ عمليات إعدام جماعية بثوا صور بعضها عبر أدواتهم الدعائية.
وبعد أيام قليلة من سيطرتهم على تدمر، أعدم المتطرفون مدير الآثار السابق للمتاحف في المدينة خالد الأسعد (82 عاماً) بقطع رأسه وتعليقه على عمود كهرباء في ساحة المدينة، بعدما عذبوه، محاولين أن يعرفوا مكان القطع الأثرية التي تم إنقاذها.
ويعد التخريب والدمار اللذان لحقا بتدمر من أبرز الخسائر التي تكبدها التراث السوري، ولا يمكن تعويضها، فيما لم يستثن النزاع منطقة من البلاد، ويقول جاستين ماروزي، المؤلف والمؤرخ الذي كتب عن المنطقة وتراثها، لوكالة الصحافة الفرنسية “بكلمتين، إنها كارثة ثقافية”.
ويذكر هذا الدمار الذي لحق بالآثار السورية في العقد الأخير بعصر آخر، عندما تسببت الإمبراطورية المغولية التي أسسها جنكيز خان، بمجازر مماثلة.
وتعد حلب واحدة من أقدم المدن المأهولة بالسكان لفترة متواصلة في العالم، إلا أن الحصار المحكم الذي لحق بأحيائها الشرقية، التي بقيت لسنوات تحت سيطرة الفصائل المعارضة وما تبعه من معارك وقصف، عاث فيها دماراً.
وذكر تقرير نشرته مؤسسة “غيردا هنكل” والجمعية السورية لحماية الآثار، ومقرها باريس، العام الماضي، أن أكثر من 40 ألف قطعة أثرية نهبت من المتاحف والمواقع الأثرية منذ بداية الحرب.
ونتج عن تهريب الآثار خلال سنوات الحرب عائدات بملايين الدولارات استفاد منها تنظيم “داعش”، فضلاً عن شبكات تهريب وأفراد أقل تنظيماً، وأنشأ “داعش” قسماً خاصاً تولى تنظيم أعمال التنقيب في المواقع الأثرية في مناطق سيطرته.
وأتاحت الفوضى التي غرقت بها سوريا في ذروة الحرب بتهريب قطع أثرية يمكن نقلها، كالعملات المعدنية والتماثيل وقطع فسيفساء، إلى أنحاء العالم مع انتعاش سوق سوداء للآثار. وبينما تبذل جهود للحد من التجارة غير المشروعة، وتمت في بعض الحالات إعادة قطع مسروقة إلى سوريا والعراق المجاور، لكن الخسائر تبقى هائلة.
وترتب هذه الخسائر مخاطر اقتصادية كبيرة على مستقبل سوريا التي تمتلك ثروة من المعالم الأثرية كانت عامل جذب في قطاع السياحة، الذي لم يبلغ طاقته القصوى على الرغم من إمكاناته الهائلة.