في أعالي جبل سمعان شمال غرب مدينة حلب، وعلى ارتفاع نحو 1,400 متر عن سطح البحر، يقف واحد من أعظم الشواهد على المسيحية الشرقية في العالم القديم، إنه دير القديس سمعان العمودي، الذي يروي قصة نسك وتفانٍ وإيمان، عبر أحجاره المنحوتة وعموده الذي شهد لقرون على العبادة والتاريخ.
تاريخ قديس عاش على عمود
تبدأ الحكاية مع سمعان العمودي، الراهب المسيحي الذي وُلد عام 389م في قرية سيس (قرب حدود سوريا وتركيا اليوم)، وكرّس حياته للتنسك والعبادة.
في عام 412م، اتخذ من قمة جبل سمعان مكانًا للخلوة الروحية، حيث بنى عمودًا حجريًا واعتلاه ليبقى عليه لأكثر من 37 عامًا، سعيًا للتقرب من الله، في ما عُرف لاحقًا بـ”الرهبنة العمودية”، وهي ظاهرة روحية فريدة في التاريخ المسيحي.
بعد وفاته عام 459م، تحوّل الموقع إلى مركز حج عالمي، وبدأ بناء مجمّع ديني ضخم يضم كنيسة وأروقة وفسحات للزوار، ليكون بمثابة نصب تذكاري للقديس سمعان، ومعلماً معماريًا فريدًا.
تحفة معمارية من القرن الخامس
دير سمعان يُعد من أبرز الأمثلة على العمارة البيزنطية المبكرة، ويضم:
كنيسة بازيليكية رباعية الأذرع تتقاطع عند مركزها حيث كان يقف العمود.
منازل للرهبان، ساحات عامة، وأقواس حجرية ضخمة.
زخارف حجرية دقيقة، ونقوش مسيحية وصلبان منحوتة.
ويبلغ طول الجناح الغربي للكنيسة أكثر من 40 مترًا، وهو مزين بأقواس رشيقة ونقوش تشهد على براعة فنية معمارية نادرة في القرن الخامس.
من مكان عبادة إلى قلعة حربية
في العهد البيزنطي المتأخر، وبسبب موقعه الاستراتيجي، تحوّل دير سمعان إلى حصن عسكري، حيث أُقيمت حوله أسوار وأبراج مراقبة، وعُرف باسم “قلعة سمعان”، خاصة في زمن القائد نقفور فوقاس في القرن العاشر الميلادي.
الحرب لم ترحم التاريخ
رغم إدراجه عام 2011 ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، كجزء من “المدن المنسية في شمال سوريا”، إلا أن دير سمعان تعرض خلال الحرب السورية لعدة أضرار جسيمة.
تقارير منظمات دولية وثقت أضرارًا في الواجهة الغربية للكنيسة، وتهدم أجزاء من القباب، نتيجة القصف والغارات، إلى جانب الإهمال وانعدام الترميم.
مكان للحج الروحي والسياحي
حتى سنوات ما قبل النزاع، كان دير سمعان مقصدًا للحجاج المسيحيين، والزوار من داخل سوريا وخارجها، وموقعًا مفضلاً لمحبي العمارة الأثرية والروحانية.
وكان يقام فيه قداس سنوي في ذكرى وفاة القديس، بمشاركة وفود كنسية من دول العالم.
أهمية ثقافية ودينية عالمية
دير سمعان ليس مجرد أطلال… بل هو:
مركز ديني تاريخي جذب آلاف الزوار عبر العصور.
رمز للتقوى والتفاني في العبادة.
تحفة معمارية بيزنطية سبقت عصرها.
نقطة التقاء حضاري بين الشرق المسيحي والغرب البيزنطي.
دعوة لإنقاذ ذاكرة سوريا الروحية
اليوم، يقف دير سمعان صامتًا، وأحجاره العتيقة تهمس بقصة قديسٍ اختار أن يعيش بعيدًا عن الأرض ليقترب من السماء. إنقاذ هذا المعلم لا يعني فقط الحفاظ على مبنى، بل هو دفاع عن ذاكرة سوريا الروحية، وهويتها التاريخية المتجذرة.
إننا بحاجة إلى خطة وطنية ودولية عاجلة لترميم الدير، حماية ما تبقى منه، وإعادة دمجه في الحياة الثقافية والسياحية السورية، كموقع يجب أن يعود حيًا… لا أن يُنسى في الركام.